بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


معنى الإسلام

تقدّم القول أنّ تعدّد رسل الله واختلاف الأحكام التي جاءوا بها لا ينافي وحدة الدّين بمعنى الرابطة الوثيقة بين الخالق والمخلوق. وكل كلمة من الله هي نور بدون اعتبار لزمانها ومكانها أو الأفق الذي أشرقت منه: فالزبور والتوراة والإنجيل والقرآن كلها كلماته ونوره ورباطه الوثيق وعهده المصون، كما قال تعالى: "مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يِتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"[١]، فلا شك أن الآيات التي يتلوها أهل الكتاب هي آيات الإنجيل والتوراة، وليست آيات القرآن الكريم.


وفي قوله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نَنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا" بيان واضح يؤكد الوحدة التي تربط جميع آياته - بدون تخصيص أو تحديد - والعروة الوثيقة التي توحد الرسالات الإلهية المتعاقبة. والمستفاد من لفظ "نَنْسَخْ" أن بين آيات الله وحدة لا تنفصم بطول الزمن بين رسالة وأخرى، فالآية اللاحقة إن تعارض حكمها أو مفهومها مع آيات سابقة حلّت محلّها واعتبرت تعديلاً لها، لأنه لا يتصور وجود تناقض في كلام الله وتفاوت في الأحكام التي يطلب من عباده اتباعها في زمن معين. والآية المذكورة تجزم بأن الآية الناسخة إمّا تماثل المنسوخة أو هي خير منها.


ولا يفهم من لفظ "خَيرٍ مِنْهَا" في هذا الموضع معنى المفاضلة بين الآيات سواء من حيث صوابها أو دقة إحكامها، فذلك مناف للكمال الإلهي ودوامه على حال واحد لا أحسن فيها ولا أسوأ. فليست المفاضلة هي المراد من قوله: "بِخَيرٍ مِنْهَا" وإنما المقصود أن الله يبدّل آياته وأحكامه بما يناسب مدارك الإنسان المتنامية، وظروف نشأته المتغيّرة. وواقع الحال أنه ليس تغييراً وتبديلاً لتصحيح أو تحسين الكلام، ولكنه استبدال اقتضاه التّدرّج في تربية الإنسان وتهذيب فكره وتنظيم حياته، فآيات الله نظم مكنون في كتاب محفوظ يكشف عنه رسله تعالى بقدر طاقة أهل الإمكان ووفقاً لمدى تقدمهم وقابليّاتهم. وليس من شأن العبد أن يقارن أو يفاضل بين أجزاء هذا النظم، وإنما واجبه التسليم والإيمان بما فيه "كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"[۲].


من هنا نرى أنّ الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة والبوذيّة والزردشتيّة وسائر الدّيانات السّماويّة كلّها من حيث أصولها وغاياتها فيض إلهي واحد، وهي تختلف بطبيعة الحال من حيث زمانها وأسلوبها وتعاليمها ولكنها متحدة في سعيها لعلاج ما اختلّ من شئون المجتمع البشريّ بما يتفق مع درجة بلوغه ورشده، وإعداده لمتابعة السير في مراحل التّطوّر الرّوحاني غير المتناهية.


وفي هذا السياق العام يمكن فهم قوله تعالى: "اليومُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً"[٣]، فهذا الخطاب الرّحماني موجه بنوع الخصوص إلى أمّة سيدنا محمد ويحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى رسالته. ولكن كلمة "الإسلام" في قوله تعالى "وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْناً" تفيد أكثر من معنى. فلكلمة الإسلام لغة معان عدة. ومن معانيها الخضوع والانقياد لكلّ ما يأتي من عند الله، وإسلام الوجه إلى الله، وتفويض الأمر إليه. كما أن من معانيها أيضاً اتباع شريعة محمد رسول الله.


وهذا المعنى الأخير الخاص للفظة "الإسلام" هو الذي اعتبره أكثر المفسّرين، فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير لهذه الآية "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره" ويعود ابن كثير فيقول في الصفحة نفسها تفسيراً لهذه الآية: "لما نزلت "اليَومُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ"[٤] وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر، فقال له النبي: ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: "صدقت"، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء[٥].


ولا تثريب على عامة المفسرين إذا عظموا دينهم ورفعوا قدره ومدحوه مع ملاحظة عدم الإسراف في ذلك، وإلاّ وقعوا في الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة فضيّقوا المعاني المبسوطة، وخصّصوا فيها بدون دليل، وأوجدوا التعصب الأعمى وأضلوا الكثير من الناس. وقد رأينا - فيما سبق - أن اليهود اعتبروا كتابهم كاملاً حاوياً كل شيء، وما زالوا يرددون أن شرعته شريعة أبدية لا تتغيّر وليسوا في حاجة إلى غيرها. وقد كان هذا الفهم صحيحاً في زمان شريعة موسى كما صدّق بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: "ثُمَّ آتَيْنَا مُوْسَى الكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِم يُؤْمِنُونَ"[٦]، فكتاب موسى عليه السلام كتاب تام، وفيه تفصيل كلّ شيء، ولكن إطلاق هذا الوصف على نحو يسد باب الهدى من بعده، وينهي رسالات الله، ويزعم أن "يَدْ اللهِ مَغْلُولَةًٌ"[۷] تضييق للمعنى وخطأ أدّى بهم إلى تكذيب رسل الله الذين بعثهم الله بالحق من بعد موسى.


فتخصيص معنى "الإسلام" على وجه الإطلاق لا يتفق وسياق الكلام، وينحرف عن المراد. وحصر معنى "الإسلام" في قوله: "وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً" في الإشارة إلى شريعة محمد لا مبرر له ولا دليل عليه، فالآية تحتمل أيضاً المعنى العام للفظة "الإسلام" أي تسليم الوجه إلى الله والإذعان لأوامره تعالى وهذا هو جوهر الدين وحقيقته. وبهذا المعنى وصف الله الأمم السابقة بالإسلام كما قال في معرض الحديث عن سيدنا إبراهيم: "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِيينَ"[٨]، أو دعاء إبراهيم وإسماعيل "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ"[٩]، وكذلك وصيّته لبنيه: "يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُم الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ"[١۰]، كما كان حواريو عيسى أيضاً مسلمين: "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيْسَى مِنْهُم الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[١١].


فواضح من الآيات السابقة أن الإسلام بمعناه العام هو طاعة الله وإسلام الوجه إليه تعالى وهو أساس العبودية للّه ولا يتصور إيمان المرء بدين سماوي إلاّ إذا كان مقروناً بتسليمه لأمر الله ظاهراً وباطناً. وبهذا المعنى جاءت الآية المباركة: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ"[١۲]. ومن الواضح أن صرف دلالة كلمة الإسلام - معرفة بالألف واللام - في هذه الآية إلى رسالة محمد وحدها ينفي وصف الدين عن رسالة كل من موسى وعيسى، وهو ما يناقض آيات القرآن الصريحة بأن ما جاء به موسى وعيسى كان حقاً من عند الله. والمعلوم لغة أن كلمة "الدين" - معرفة بالألف واللاّم - وبدون تخصيص تعني أولاً: الرابطة بين العباد وخالقهم ولا تقتصر على رسالة معيّنة بل تشملها جميعاً.


كما تعني ثانياً: أن هذه الرابطة واحدة على ممرّ الزمن، وأن تتابع الشرائع المعدّلة لأحكام هذا الدين الواحد هي سرّ دوام حيوية هذه الرابطة وصلاحها مع تغير الظروف والأحوال.


والآية الواردة بعد "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ" تبين بوضوح المعنى المراد إذ جاء القول فيها موجها إلى محمد: "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي للهِ". وبهذا أوضح الله تعالى أهمية إسلام العباد لتعاليمه وأحكامه بحيث صار الإسلام وصفاً شاملاً وشرطاً لكلّ الرسالات الإلهية، فـسيّدنا نوح جاء بدين وصفه الله تعالى بأنّه الإسلام: "وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ"[١٣]، وسيّدنا يعقوب عليه السّلام جاء أيضاً بالإسلام: "أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"[١٤]، وكذلك سيّدنا موسى عليه السّلام: "وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَـَّما جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ"[١٥]، وسيّدنا عيسى عليـه السّلام جاء بالإسلام: "وَإِذْ أَوْحَيْتُإِلَى الحَوَارِيـِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُواآمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسلِمُونَ"[١٦].


وخلاصة ما تقدّم أنّ "للإسلام" أكثر من معنى فهو في موضع يعني استجابة العباد إلى أوامر الله وانقيادهم لمشيئته، وفي موضع آخر اسم رسالة من الرسالات السماوية.


أمّا قوله تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ"[١۷] فيمكن حمل كلمة "الإسلام" في هذه الآية على معناها العام بناء على سياق الحديث في الآية السابقة "قُولُوا ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوْسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم لاَ نُفَرِّقُ بِيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". فالإسلام بمعناه العام - كما رأينا - شرط لازم ومشترك لكل الشرائع، ويعني رفض الله أدنى تحفظ أو تردد من عباده إزاء قبول شرائعه وأوامره قبولاً غير مجزأ وغير مشروط، ولا يقبل منهم إلاّ تسليمهم التام لكل ما جاء فيها.


وبعبارة أخرى، إن الرسالات الإلهية المتتابعة لا تبغي اقتسام العباد، ولا تريد التفرقة، ولا تمس بوحدة الدين، وإنما هي - كبنيان مرصوص - تكمّل كلّ منها الرسالة السابقة عليها، فتبدل بعضاً من أحكام الشريعة السابقة بأحكام تحقق الغايات نفسها، كما بدلت شريعة موسى شرع إبراهيم، وكما نسخت شريعة المسيح شرع موسى، وكما نسخت شريعة محمد شرع المسيح وهلمّ جرّا، وهكذا تتصل كل رسالة بالأخرى وتكوّن حبلاً واحداً أمر الله الناس أن يعتصموا به، وذلك هو عهد الله مع عباده.


والمتدبر في كتاب الله يتبين أن لله مع البشر عهدين: عهد عام مع الناس جميعاً أن يؤمنوا برسالاته ويتبعوا أوامره ويسلموا له بحكم الفطرة التي فطر الناس عليها "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ"[١٨]، وعهد خاص يوثقه الله مع المؤمنين في كل رسالة من رسالاته وهذا مفهوم من لومه تعالى لبني إسرائيل لحنثهم بعهده الذي أوثقه موسى: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُم وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوْفِ بِعَهْدِكُم وَإِيَّايَ فَارْهَبُونَ"[١٩]، وجاء في تفسير الشيخ محمد عبده: "عهد الله تعالى إليهم يُعرف من الكتاب الذي نزّله إليهم، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه"[۲۰]. ولا يجوز القول: بأن الخطاب موجه إلى بني إسرائيل ولا يصدق على غيرهم، لأن العدل الإلهي لا يخص قوماً بما يأباه على غيرهم فرحمته تعم العالمين ونوره يهدي كل البشر، ولومه بني إسرائيل يصدق أيضاً على كل أمّة تعرض عن رسالاته وتتخذ منها موقفاً مماثلاً لموقف بني إسرائيل. ومضمون العهد الإلهي المشار إليه في الآية المذكورة صريح في قوله تعالى موجهاً إلى بني الإنسان عامة: "يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُم رُسُلٌ مِنْكُم يَقُصُّونَ عَلَيْكُم ءَايَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"[۲١].


وحقيقة أخرى تؤكدها هذه الآية المباركة ألا وهي وحدة دين الله التي لا تتعدّد بكثرة رسله وتعّدد شرائعهم على مدى الزمن، ومن ثمّ من يؤمن برسالة ولا يؤمن بأخرى، كأنه حنث بعهد الله، لأنّه قد احتجب بالتعدّد عن وحدانيته تعالى. وتبعاً لذلك مَن يـؤمن برسول دون رسول يكون قد غفل عن حقيقة التوحيد. وهذا قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيْدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيْدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاُ أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقّاً وَاعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيْهِم أُجُورَهُم وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً"[۲۲].


هذا هو الكفر بأدقّ معانيه، ويختلف عما تظنه العامة الذين يعتبرون الكفر عدم الاعتراف بوجود الباري جلّ وعلا. وهذا تصوّر غير صحيح، فما من إنسان إلاّ ويعترف بوجود إله واحد مدبر لشئون الكون، حتى الطبيعيّين - على الرغم من عدم استعمالهم لفظ الجلالة - يعتقدون بوجود قوّة خفيّة مسيرة للكون وإن كانوا لا يدركون كنهها ولا يعرفونها بغير هذا التّعريف. فالكفرالحقيقي - كما صرحت الآية المباركة - هو التفريق بين رسل الله، والتفريق بينهم وبين الله عزّ وجلّ، وقبول واحد ورفض الآخر، فالذي يعترض على أيّ رسول إلهيّ في أيّ زمن من الأزمان يكون في الحقيقة قد قطع ما أمر الله به أن يوصل. وقد ذكّر حضرة بهاء الله هذه الحقيقة في تأكيد قاطع بقوله المنيع: "وإنّك أنت أيقن في ذاتك بأنّ الذي أعرض عن هذا الجمال فقد أعرض عن الرّسل من قبل ثم استكبر على الله في أزل الآزال إلى أبد الآبدين"[۲٣].


"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة