بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


الموت والحياة

المقصد من ضرب الأمثال في كتب الله - كما أشرنا سابقاً - تقريب الحقائق الرّوحانيّة والمعاني غير المحسوسة إلى أفهام البشر. وعلى الرغم من أن حقيقة الإنسان وجوهره روحاني إلاّ أنه يخضع لسلطان المادة وتسيطر على حانب من وجوده أحكام المادة وقوانين الطبيعة مثله في ذلك مثل الحيوان. وإن اقتصر اهتمام الإنسان في الحياة على هذا الجانب فإن وجوده ومآله ينحصران في مملكة الطبيعة وعالمها المشهود. أما إذا قويت ذاته وتأصلت فيه القيم الروحانية فإنه يتحرر من أسر الطبيعة ويسمو وجوده ومآله إلي المراتب الملكوتية وهي غيب مجهول بالنسبة لمداركه الحسيّة، ولكن لها مقابل ومثيل في عوالم الطبيعة، ومن ثم أكثرت الكتب المقدسة من ضرب الأمثال واستعمال أساليب التشبيه لجلب القيم المعنوية المعقولة من مكامن الغيب وتقريبها إلى المدارك العقلية لبني الإنسان حتى تتيح له فرصة الخيار- والربط - بين الجانبين المادي والروحاني.


وفي هذا تنحصر الفرصة الفريدة التي تهيئها سنوات الحياة المعدودة على وجه الأرض. فإن احتجب وجدان الإنسان عن إدراك القيم الروحانية بما زينته أهواؤه، وتلهى عن إنماء المواهب الملكوتية الكامنة في ذاته، أضاع من يده النعمة التي وعده بها الله في الحياة الحاضرة ومن بعدها في الحياة الآخرة. وما أتى رسل الله إلاّ من أجل حثّ وتنبيه هذا المخلوق - الذي أراد الله تكريمه - على نحو يجعله على بصيرة من أمره، ومعاونته على الاحتفاظ بمميزاته الإنسانية وعلى رأسها وجوده الروحاني الذي يفيض على عالم الشهود بأنوار الفضائل والكمالات. وكما أن الشّمس هي نور الحياة المادية فإن الإيمان بالله وإسلام الوجه إليه هو نور الحياة الرّوحيّة. وقد أشار سبحانه وتعالى في كتابه العزيز إلى هذه الحقيقة في مجال المقارنة بين الكفر والإيمان فقال: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا"[١].


والمقارنة في هذه الآية هي بين عمّ الرسول حمزة، وأبي جهل، ويفهم من ظاهر ألفاظ الآية أن سيّدنا حمزة، كان ميتاً قبل إيمانه برسالة سيّدنا محمّد، فلمّا آمن دبت فيه الحياة وأضحى يسعى بنور إيمانه بين النّاس. وهكذا شبّه الله تعالى إيمان الإنسان بالحياة، واعتبر الكفر عين الموت فقال تعالى: "وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ"[۲].


فهذه هي الحياة في نصوص الكتب الإلهيّة: الحياة بمعناها الرّوحانيّ، وهذا أيضاً هو الموت في متن الكتب السماوية: الموت الرّوحانيّ، ولا أدل على ذلك من نفيه تعالى الموت عن الذين بذلوا أرواحهم في سبيله تعالى في قوله: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِم يُرْزَقُونَ"[٣]. فهذه الحياة الروحانية لا تقتصر على الزمن القصير الذي يقضيه الإنسان في الدنيا ولكنها تبقى وتدوم بعد خمود جسده، لأن ما يتعلق بالروح أبدي بطبيعته، ولا يعتريه التغيير الذي يصدق على الماديات.


وما دام أن هذا هو معنى الحياة، فإذا أشارت النصوص الإلهية بعد ذلك إلى البعث فإنما تشير إلى بعث الحياة في الرّوح لا الجسد. وقد أشار السيّد المسيح إلى هذا المعنى نفسه بقوله: "أَنَا هُوَ القِيَامَةُ وَالحَيَاةُ"[٤]. أي أنّه أتى إلى خاصته - اليهود - وكانوا أمواتاً في أجساد تتحرك، فأراد أن يحييهم من جديد، ويبعث فيهم الحياة الأبدية. فالبعث المقصود في كتب الله هو البعث الرّوحانيّ وليس الجسمانيّ. ولا أدلّ على ذلك من قوله تعالى: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوْسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُم الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُم تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"[٥]. وهذا الخطاب المبارك موجّه إلى اليهود. فهل حدثنا التاريخ أنّ اليهود، كشعب أو أمّة ماتوا بأجسادهم الموت الطبيعي، ثمّ بعث الله الحياة في أجسادهم من بعد موتهم؟ ولو ذكر التاريخ ذلك لاعتبرناه من أساطير الأولين.


فالحياة والموت في خطاب الحقّ سبحانه وتعالى، مقصود بهما الحياة الرّوحيّة والموت الرّوحانّي. وكذلك ما ورد ذكره في الكتب الإلهية من بصر وعمى، ونّور وظّلمة إنما هي استعارات يراد بها تقريب المعاني الملكوتية إلى أفهام أناس لم يشهدوها، ولم يعرفوها فكان لا بد من التشبيه. فإذا قارن تعالى في كتبه المقدّسة بين الحيّ والميّت أو بين النّور والظّلام، فإنما يقصد الحيّ بالإيمان، والميّت الّذي بقي في كفن الضلالة والخسران. كما قال تعالى: "وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيْرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ وَمَا يَسْتَوي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ"[٦].


ولا تقتصر هذه المقارنة على مجرّد التّنبيه إلى المقام الرّفيع الذي يرتقي إليه كلّ مقبل إلى الله وكلّ سالك في نور هداية الله، وإنما هي تشعر أيضاً بأنّ الذي يعرض عن نور الله هو في عداد الأموات: "إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلاَ نَذِيرٌ"[۷]. فلا شك أن الله لم يبعث رسله ليخاطبوا الموتى بأجسادهم أو ينذروا من في القبور تحت التراب، وإنما المراد أن المعرضين عن رسالات الله هم موتى روحانياً وذواتهم مدفونة في قبور أجسادهم المتحركة.


والحقيقة التّي لا شك فيها هي أنّ الّذين يحرمون أنفسهم من نعمة الإيمان بالرّسالات الإلهية هم أسوأ حالاً من الموتى جسدياً، لأن من وارى أجسادهم التراب، لم يكن لهم خيار حيال الموت ولكن المعرض عن رسالة إلهية إنما يحكم على نفسه بالموت الأبدي بإرادته الحرة واختياره. هذا بالإضافة إلى أن من وارى أجسادهم التراب قد انقطع شرّهم عن الناس أمّا أموات الرّوح الّذين يدبّون على الأرض، وينشرون الفساد ويضلّون العباد بأعمالهم الشّيطانيّة فإن شرهم متواصل. حقاً إن الموتى في قبورهم لا يتقاتلون، ولاينقضون نواميس الشّرف والأخلاق، ولا يعتدون على حقوق الناس. أمّا أموات الرّوح، فيحيلون المعمور مطموراً، وينشرون في الأرض لهيباً من نار التّعصب والبغضاء.


يشهد التاريخ أن الإنسان لم ينجح في إصلاح أحواله معتمداً على قواه منفرداً في أي يوم من الأيام، والثّابت على وجه القطع واليقين أنّ رسل الله هم الّذين عاونوا البشر على السير في مراحل الإصلاح، وتحملوا في هذا السّبيل كلّ جحود وغرور واستكبار. والنّاس يروون قصص الأنبياء السابقين وهم في غفلة عن سوء حالهم في الوقت الحاضر. وإذا قيل لهم أفيقوا من سبات الغفلة وانهضوا من رقاد الكسالة الذي غلب عليكم، واقبلوا إلى مطلع النّور الإلهي الذي أراد إخراجكم من الظّلمات إلى النور، أجابوا ما نرانا بحاجة لمن يهدينا. مثلهم كالمريض الذي يتوهم في سكرة الموت أنّه على أحسن ما يكون صّحةً وعافيةً، ثمّ يرفض يد الطّبيب الممدودة إليه في عطف وحنان.


هذا هو حال عالم اليوم عنيد يرفض الهدى والإصلاح، فصدق عليه قوله تعالى: "وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا"[٨]، وقوله تعالى: "وَإِذَا قِيْلَ لَهُم لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا ِإِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلاَ أَنَّهُم هُم المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ"[٩]. ولهذا تفضل حضرة بهاء الله بوصف هذا العناد في خطابه إلى الملكة فكتوريا: "إذا قيل لهم أتى مصلح العالم قالوا قد تحقّق أنّه من المفسدين أولئك من أجهل الخلق لدى الحقّ يقطعون أعضادهم ولا يشعرون، يمنعون الخير من أنفسهم ولا يعرفون، مثلهم كمثل الصّبيان لا يعرفون المفسد من المصلح والشرّ من الخير قد نراهم اليوم في حجاب مبين"[١۰]، فالعناد الذي يرتفع من جانب المعرضين يقدم، من ناحية أخرى، صورة مجسّمة للدور الجليل الذي يضطلع به رسل الله في سبيل بعث مثل هؤلاء النفوس الّذين وصفهم الحقّ بقوله تعالى: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ"[١١]، و"إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الّذين كفروا فهم لا يؤمنون"[١۲].


فعدم الإيمان، أو رفض الإيمان هو حرمان لصاحبه من فيوضات الله التّي بها وحدها يبصر ويسمع ويعقل ويحيي. والإعراض عن النّور والهداية الجديدة يهبط بصاحبه إلى مستوى العمى والموت. وقد وصف سيّدنا المسيح عليه السّلام أمثال هؤلاء بالكيفية نفسها: "لأنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون"[١٣]. أمّا خطابه للحواريين فكان على النقيض من ذلك: "لأِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ"[١٤]. نسأل الله أن يزيل الغشاوة عن العيون والحجب عن الأفئدة، والوقر عن الآذان.


"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة