بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


الميزان

الميزان لغةً هو الأداة التّي تُعرف بها أثقال وأوزان الأجسام، ويعني مجازاً تقدير المعاني والأعمال بنسبتها إلى قيم أخلاقية وروحانية متعارف عليها. ويعني أهل الفلسفة بالميزان العلامة التي تتبين بها الأشياء والمعاني فيتيسر الحكم عليها، وفي اصطلاح الكتب المقدّسة الميزان هو ما يعين العباد على تقدير سلوكهم بمقارنتها بالأوامر الإلهية لتتبيّن مدى مطابقتهما بغية تقويم سلوكهم. وبعبارة أخرى الميزان لأهل الأديان هو سبيل لمعرفة مدى مناسبة تصرفات الإنسان وسلوكه للقبول في ساحة الحق، فهو القسطاس الذي يوزن به وفاء المرء بعهد الله وميثاقه، وبه يتحدد صدق النوايا، كالصراط المؤدي إلى النجاة والفلاح والرقي في معارج الكمال.


وهذا ما يُستفاد من قوله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"[١]، وفي هذا المعنى نفسه يقول حضرة بهاء الله: "اسمعوا ما تتلو السدرة عليكم من آيات الله إنها لقسطاس الهدى من الله ربّ الآخرة والأولى"[٢]، وفي موضع آخر يحذر حضرة بهاء الله من الخلط بين ميزان الله وموازين البشر فيتفضل بقوله عزّ بيانه: "قل يا معشر العلماء لا تزنوا كتاب الله بما عندكم من القواعد والعلوم إنّه لقسطاس الحقّ بين الخلق قد يوزن ما عند الأمم بهذا القسطاس الأعظم وإنّه بنفسه لو انتم تعلمون"[٣].


فبظهور المظهر الإلهي الجديد ينبض عالم الشهود بحياة جديدة وروح جديد، وفي ظلّ أحكامه الجديدة تصبح الأعمال مرآة تعكس أنوار الفضائل الإنسانّية المنبعثة من الهداية الرّبانية الجديدة. وفي ظلّ أنوار وهدى الرّسول الجديد يسود الوفاق والاتحاد رحمة من الله كما قال: "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"[٤] فالميزان بهذا المعنى عون للمؤمن في محاسبة النفس ومراقبتها وهو الحكم المبرم المفرق بين النور والظلمة، وبين الخطأ والصواب. والميزان بهذا المعنى يستوي مفعوله في الدنيا والآخرة، ولو كان قصراً على الآخرة لما أنزله الله والكتاب على رسله في الحياة الدنيا. وجاء ذكر ذلك سابقاً في تفصيل معنى القيامة والساعة[٥].


أما نفع الميزان في الحياة الدنيا فيمكن فهمه من نصح حضرة بهاء الله للمؤمنين بالتفكر في سلوكهم: "حاسب نفسك في كل يوم من قبل أن تحاسَب لأن الموت يأتيك بغتة وتقوم على الحساب في نفسك"[٦] فمسئولية العبد في هذا الحساب مسئولية شخصية وفردية، وبها يصارح المرء نفسه في خلوة مع ضميره ويواجه بعزم وحزم جنوحه وميوله، ويكشف لنفسه عن حقيقة بواعثه، ويعترف بافتقاره. وفي ذلك مواجهة العبد لنفسه بالحقائق العارية لا بدافع اللوم والتبكيت أو استثارة الشعور بالذنب أو الحط من قدر نفسه، ولكن بغية الإصلاح، وكبح الجماح، والتحرر من الإثم، والخلاص من الهوى، وسعياً إلى السمو، ومناشدة للعزة، وأملاً في الحرية، والتقرب إلى الله تعالى بمشابهة صفاته والامتثال إلى وصاياه ونواهيه.


وكما أن للميزان كفتين فكذلك لهذا الحساب جانبان: الأول: الإنسان بنقائصه وهوانه وشهواته، وهي ميراثه من العالم المادي الذي انبثق منه جسده، والذي ينشد الخلاص من ربقه. والثاني: السعادة الحقة والنعيم الأبدي والهدى الرباني المتلألئ في الأحكام الإلهية، والرحمة الكبرى المتشعشعة من مواعظه تعالى وكلماته. ولكن ليتسنى للمرء إحكام الزمام في حساب النفس ينبغي عليه أن يتوفر على عدد من الوسائل يستعين بها على الفوز في هذا الامتحان المليء بالعثرات. فعلاوة على مواظبته على مراقبة أقواله وأفعاله بدقة يجب أن يدرك المعاني السامية والصفات العالية التي يريد بلوغها والتي يتخذ منها معايير لأحكامه. وإن لم يكن هنا موضع للتوسع في هذا الموضوع تفصيلاً، إلاّ أن ما لا يقال كله لا يترك كله، فلا أقل من الوقوف لحظة على شاطئ هذا البحر المتلاطم الأمواج غير المحدود.


فعلى الطالب أولاً: أن يتأمل في الغاية من خلقه، مؤمناً أن وجوده لم يكن عبثاً، وعليه أن يؤمن بأن خلق الإنسان، وما أوتي من قدرات ومواهب كان لهدف. وما عليه إلاّ أن يقلب النظر في مشاهد هذا الكون غير المتناهي، لكي يصل إلى اليقين بأن لكل موجود فيه مهما كانت رفعته أو دناءته وظيفة يتوقف عليها وجود آخر، وأن مراتب الوجود مرتبطة برباط وثيق، ويتوقف وجود كل منها وبقاؤه على وظيفة ووجود كائنات أخرى، فأجزاء هذا الكون الفسيح كله تفتقر إلى بعضها البعض، ويتوقف بقاؤها ونماؤها وكمالها على ما تؤديه الأجزاء الأخرى بدون أدنى استثناء، ولا يوجد في الخلق مستغني أو مستقل عن غيره. فخاصية الوجود المادي الترابط والتبادل لمقومات الوجود والرقي في مراتبه. وعلى العبد أن يعلم أن تقويم نفسه هو سهم في تقويم المجتمع وإصلاح العالم، وبقدر محاسبته لنفسه يكون سهمه في عمران العالم.


ولقد فصّل حضرة بهاء الله الغاية من خلق الإنسان في الصلاة التي يؤديها البهائي وقت الزوال: "أشهد يا إلهي بأنك خلقتني لعرفانك وعبادتك". وليس المقصود بالعرفان عرفان الذات المنزهة عن الإدراك، ولكن عرفان مظاهر الله وعرفان الصفات المنسوبة إلى الله وهي على قدر بعدها عن النسبة إلى الكمال الإلهي هي منتهي ما يصل إليه إدراك البشر، والتحلي بها هو غاية ما يستطيعه الإنسان في حياته الدنيا على الأقل. على أن المهم في هذا الجهاد هو تمسك المرء بالصدق الصرف مع نفسه فلا يلتمس المعاذير عن هفواته، ولا يخفي حقيقة البواعث على تصرفاته. فهذا معنى الميزان، والحساب الذي يأتي مع كلّ رسول. وهما نور تتجلّى في ضوئه حقائق الأشياء. وكما كان سيّدنا محمّد والسيد المسيح من قبله في زمانهما هدى للسابقين، يشرق اليوم النّور نفسه من كلمات حضرة بهاء الله لينير السبيل لأهل العالم.


"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة