بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


دواعي التجديد

رأينا في الصفحات السابقة أَنَّ كل الشرائع والأديان تعبير عن إرادة كليّة واحدة أرادت تربية الإنسان وهدايته إلى سبل التقدم والرقيّ والعرفان. والنظر إلى الرسالات الدينية المتعاقبة على أنها حلقات متتابعة لدين واحد جوهره إسلام العبد إلى الله وإذعانه للكلمة الإلهية هو التوحيد الحقّ. والدين بهذا المعنى يسمو على الشكليات والفرعيات التي اختلفت من شريعة إلى أخرى تمشّياً مع اختلاف ظروف الحياة وضروراتها في الأزمنة التي بعثت فيها، فضلاً عن تفاوت الوعي الروحاني في كل من الأقوام التي بعثت إليها الأديان‭.


وبعبارة أخرى كانت الرسالات الدينية المتعاقبة بمثابة تجديد للرابطة الوثيقة بين الإنسان وبارئه، وغوث الرحمة الإلهية الدافع للإنسانية نحو آفاق التجديد والتقدم والرقيّ بنوعيهما الروحاني والمادي، وكلاهما في تطور متواصل لا يتوقف حتى أَنَّ الفهم القديم للدين على أنه مجموعة من الشعائر والأحكام لم تعد تتفق مع وجدان الإنسان في العصر الحديث. لقد اتسع مفهوم الدين ليشمل الاستقلال في التفكير الشخصي، والرقابة الذاتية على المشاعر والسلوك، والحكم على الأشياء وفقاً لمبادئ تتوخّى الموضوعية والإنصاف واحترام آراء وحقوق الغير‭.‬


فأيّ تصوّر أو زعم بأنّ أيّاً من هذه الرسالات الدينية المتسلسلة الحلقات أبديّة، أو القول بتوقّف هذه الرسالات وانتهائها بالنسبة للمستقبل هو فهم مرفوض، ولا يستند لا على الحقائق التاريخية ولا على نصوص الكتب السماوية، وإنّما هو قول يستغل غموض الكلام الوارد في الكتب المقدسة على سبيل المجاز ليفرض على العامّة فكراً يعوزه الدليل ويكذّبه الواقع. فدوام الدورات الدينية وتجددها ضرورة يتطلبها الواقع الإنساني، وكان لكل منها أجل معين قادت في أثنائه الأمم إلى حضارة مزدهرة بالمعارف والفضائل التي أفلت عندما حان أجلها، وقل نفوذها على وجدان الناس عندما عجزت عن تنظيم العلاقات البشرية المتغيرة، والحفاظ على متابعة الإبداعالفكري. وبذلك ضاقت آفاق الفكر، وتوقف الإنتاج العلمي، وانقلب التفكير من التطلّع إلى المستقبل والإعداد له إلى النظر إلى الماضي والتمسك به، والاكتفاء بالموروث عن السلف في العصور الغابرة‭.


وقد رأينا أيضاً أن مهام المرسلين في الماضي شملت التصديق بما سبق، والبشارة بما لحق والتحذير من التورط في أخطاء الأمم السابقة، فإلى أي مدى نفع نصحهم وها هي أممهم غارقة في هاوية الخلافات، والاقتتال، والتعصب، والتحزّب، وإنكار الرسالات الإلهية الجديدة؟


‬والمتأمّل الفطن الذي يرى التخلف يُحكم قبضته على ناصية أمتنا، ويشاهد الجمود الفكري ضارباً أطنابه في قلوبنا وعقولنا، ويدرك تشتت آمالنا، وانفراط نظمنا، وانحلال أخلاقنا، لن يفوته عرفان العلة الأولى لهذه العلل. ولا ريب أن الخيار الذي بقي أمامنا لا يخرج عن أمرين: إما أن نلحق بالأمم التي فنت وانعدم ذكرها، وإما أن نسرع إلى مسيرة التقدم الحضاري ونلحق بركب الإصلاح والتجديد. وما نقصده هو ذاك الإصلاح الذي تلده الرسالات السماوية، ويقتضيه الطور الجديد الذي تدخله البشرية، ذاك السراج الوهاج الكفيل بإخراج الأمم من الظلام الديجور إلى أنوار صبح الهدى‭.


والسطور التالية تعرض قَبَساً من المبادئ الأساسية لهذا الإصلاح والتجديد الذي ما زلنا في شك من أمره بينما تهافتت عليه أمم أخرى عرفت فيه الوعد الصادق بعلو قدر الإنسان، وقربه إلى أعتاب تقدست عن مدارك البشر، أمم وجدت فيه الأمل الوطيد بسكينة يفيض بها عالم تحققت فيه سبل العدل والسلام والوفاق. فهل تضيع من أيدينا الفرصة السانحة بسبب ما توهمه السلف في عصور غابرة؟

"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة