بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


سُرُج نورها واحد

تحتلّ قضية التوحيد مكاناً بارزاً بين الموضوعات التي يتباحث فيها أهل الأديان المختلفة، ولا خلاف بينهم بخصوص وحدانية الله، ولكن يدور النقاش حول مفهومها. فكل من اليهود والنصارى والمسلمين يؤكدون اعتقادهم بوحدانية الله مع بعض التفاوت فيما يعنون. وحتى الأمم القديمة - مثل البراهمة والصابئة والوثنيين - سلّمت هي الأخرى بوجود إله واحد. ولم تكن عبادتهم للأوثان لذاتها ولكن بوصفها وسائط للاستفاضة من الفيوضات الإلهية ووسيلة للتقرب والتوسل إلى فاطر البرية. وحقيقة الأوثان أنها صور ورسوم لأشخاص قاموا بخدمات جليلة لأقوامهم، وكانوا أداة لتقدمهم فوضعت تماثيلهم وصورهم في المعابد إجلالاً لخدماتهم، وتعظيماً لأشخاصهم، وإكراماً لذكراهم. وبمرور الزمن تحول الإجلال والإكرام بين العوام إلى تكبير وتقديس فنسبوا إليهم الكرامات وخوارق العادات، وتلمسوا منهم البركة وقضاء الحاجات، وتشفعوا وتقربوا بهم إلى الله. فتوجُّه الوثنيين إلى أوثان متعددة لا يناقض اعتقادهم بإله واحد، كما أن تقديس بني إسرائيل لأنبياء متعددة لم يزعزع إيمانهم بإله واحد، ولا نفت الأقانيم عند المسيحيين والأولياء عند المسلمين وحدانية الله.


ومن المتفق عليه بين أهل الأديان أن الذات الإلهية غيب لا تدركه العقول ولا يبلغ إلى حماه المنيع فكر البشر، وكل ما يتصوره الإنسان في هذا المجال هو من قبيل الوهم والخيال. ولا سبيل للإنسان أن يعرف عن الله لا صفاته ولا مراده إلاّ بواسطة من اصطفاهم الله لهذا الغرض واختارهم وسطاء يحدثون عن صفاته ويبلّغون مشيئته ويعددون أفضاله ويذكّرون خلقه بواجب ثنائه ولزوم التسليم لأوامره، وينبئونهم بما ستؤول إليه آخرتهم. فأهل الأديان والمؤمنين بهؤلاء الصفوة لا يعبدون هؤلاء المرسلين، واحترامهم وتقديسهم وتعظيمهم لهؤلاء الأنبياء والمرسلين موجه في الحقيقة لمن بعثهم فهم مظاهره وحملة نوره والحاكي عن صفاته والمعرب عن إرادته والمتحدث باسمه وقد فنت ذواتهم وانمحت إرادتهم بحيث لا يُرى فيهم سوى ما أفاض الله عليهم، فأصبح الإيمان بهم عين الإيمان بالله، وطاعتهم طاعة لله، والخشوع لهم خشوع لله، وحبّهم حب الله ومع ذلك فذواتهم غير ذات الله، والعبادة ليست لهم بل لله الذي لا يوصف بأوصاف البشر، وتعالى سبحانه عن مماثلة خلقه أو مشابهة الموجودات.


فالتوحيد بكل بساطة يعني أن يكون توجه المؤمنين - أيّاً كان دينهم - إلى الله، وأن تكون عبادتهم - مهما اختلفت مناسكها - لله من دون رسله وأنبيائه وأوليائه وقديسيه. وفي هذه القبلة عند أعتاب الذات الإلهية يلتقي جميع البشر بحبهم وابتهالهم ومناجاتهم وتتجلى وحدة مبدئهم ومقصدهم ومآبهم.


ومباحث الفصل الثاني تتناول مواضيع تدور حول وحدانية الله فتحاول أن توضح أن المظاهر الإلهية - التي اعتدنا أن نسميها رسل الله - أهل لكل إجلال واحترام وتعظيم وحبّ، ولكن بدون أن تصرف العباد عن ذات الحق الذي حدثوا عنه، وجاءوا بأمره ودعوا إلى طاعته والعبودية له، فهذا هو القصد الدائم من وراء كل مبعوثيه وكتبه وشرائعه. فإرادة الحق ذاته - أينما وكيفما تظهر - يجب أن تكون هي بؤرة الانتباه، والتسليم والانقياد لها ينبغي أن يكون منتهى أمنية المؤمن. لأن في ذلك وحده وسيلة البقاء في رحاب رضوانه تعالى.


فتتفرع المناقشة من هذا الأصل إلى ثلاثة مباحث:

أولاً: وحدانية الله ووحدة مظاهره ورسله الأكرمين

ثانياً: شهادة كل رسول لمن سبقه وتبشيره بمن يتبعه

ثالثاً: حقيقة الإسلام الذي لا يقبل الله عنه بديلاً


"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة