بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


شاهد ومبشر ونذير

من بين سُنن الله التي أقام عليها عهده وميثاقه مع البشر أنّ كلّ رسول لاحق يأتي مصدّقاً بالسّابق عليه، ويشهد بصدق كتابه، ولم تختلف هذه السُّنّة الثّابتة بالنّسبة إلى رسالة محمدّ إذ يخاطبه تعالى بقوله: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ"[١]، وكذلك كان سيدنا عيسى عليه السلام : "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيْسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنْجِيْلَ فِيْهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ"[۲]، والسّؤال الذي يثور في ذهن الباحث هو ما جدوى التّصديق بالرّسالة السّابقة في حين أن الرّسالة الجديدة تنسخ أحكامها؟


وإحدى الإجابات الممكنة على هذا السؤال أنّ صدق الرسالة يظلّ معتمداً على قول الرّسول وحده إلى أن يشهد له رسول لاحق، فتقطع شهادته بصدق الدعوة السابقة وبذلك يحكم بين الذين اختلفوا فيه، كما شهد عيسى ابن مريم لسيدنا موسى، وكما شهد سيدنا محمد لكل من عيسى وموسى، ومع هذه الشهادة يعيد الرسول اللاحق تأكيد الحقائق والتّعاليم الّتي جاء بها المبعوث الإلهي السابق، ويوسع من دائرة المؤمنين به وعدّتهم. وإضافة إلى ذلك يزيد الرسول الجديد فهم المبادئ التي جاءت في الرسالة السابقة عمقاً، ويعيد جلاء معانيها بفضل التّعاليم والأحكام الجديدة التي يأتي بها مصداقاً لقوله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نَنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا"[٣]، كما أن الرّسالة الجديدة تثبّت التّعاليم الإلهيّة الّتي هي في حقيقتها الأساس الّذي يقوم عليه نظام الحياة الإنسانيّة.


وهذا التّصديق والتذكير بالمبادئ هو إعداد لازم لتجديد وإحكام الإيمان بها، وإعمالها من جديد في إطار تشريع يضمن الحفاظ على روحها وتحقيق غاياتها بالكيفيّة المناسبة لتطور العصر، وفي أسلوب يتمشّى مع التقدم الّذي جدّ منذ مجيء الرّسالة السّابقة.


فسيّدنا موسى كان حقاً من عند الله ومع ذلك بقيت أكثر البشريّة بعيدة عن المبادئ والتّعاليم الّتي أتى بها حتى جاء سيّدنا عيسى الّذي شهد له وللتّوراة، فاتسعت رقعة المؤمنين بتعاليمه الإلهيّة. ثمّ أصبح النّاس أمام طائفتين - اليهود والنّصارى - كلّ منهما تجادل الأخرى وترميها بالبطلان: "وَقَالَت اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيءٍ وَقَالَت النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُم يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثَلَ قَوْلِهِم"[٤]، فكان مجيء سيّـدنا محمد مصدّقا بموسى وعيسى وشاهداً لهما وللتّوراة والإنجيل، فزادت دائرة المؤمنين بتعاليمه اتساعاً كبيراً، وازداد فهم التّعاليم التي جاءا بها من عند الله عمقاً، وإن لم يتم القضاء على الانقسام والخلاف السّائد بين اتباع الرسالات السّابقة، لعلل سنعود إليها فيما بعد. وقياساً على سوابق هذه السُنة الإلهيّة المنتظمة يكون منطقيّاً أن نتوقّع مجيء شاهد من عند الله ليشهد لمحمّد وللقرآن الكريم بمثل ما شهد به محمّد للسّابقين.


هذا عن مهمّة الرّسل الأولى وهي التّصديق والشّهادة لمن سبقهم، وكذلك الأمر بالنّسبة لمهمّتهم الثّانية وهي التّبشّير بمن يليه وإنذار مكذّبيه. فجميع أنبياء الله ورسله كانوا مبشّرين ومنذرين. كما في قوله تعالى "وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ"[٥].


ويتبين من هذا أنّ الشّهادة والتّبشير والإنذار هي وظائف كلّ رسول بلا استثناء، ويتعين على كلّ من ابتغى الإيمان الكامل أن يحاول فهم هذه الوظائف على الوجه الصّحيح، والتأمّل في حكمة كونها وظائف أساسيّة للأنبياء والمرسلين. فلا يُعقل أن يكون المقصود بالتّبشير والإنذار مجرد تذكير الأنام بالجنّة والنار وأحداث الآخرة. إنّ عبارة القرآن صريحة على أن للتّبشير معنى أبعد من هذا المعنى الضيّق فقوله تعالى: "وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"[٦] يوضح المراد بالتبشير، ونجد التّوراة والإنجيل والقرآن متفقة على مجيء رسل الله في تعاقب مستمرّ. فسيّدنا إبراهيم عليه السلام بشّره الله بإسماعيل وإسحاق وأنّه سيباركهما ويخرج من كلّ منهما أمّة عظيمة.


ثم جاء سيّدنا موسى ليبشر بظهور ثلاثة مظاهر إلهيّة مباركة من بعده "جاء الربُّ مِنْ سِيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلأَلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ القُدْسِ وَعَنْ يَمِيْنِهِ نَارُ شَرِيْعَةٍ لَهُمْ"[۷]، وقام سيّدنا عيسى ليبشر بظهور رسول كريم من بعده اسمه أحمد بجانب اثنين آخرين في آخر الزمان. وبعث سيدنا محمّد ليبشر بدوره في القرآن الكريم والأحاديث الشّريفة - بظهور مظهرين إلهيّين عظيمين يملآن العالم من بعده نوراً وعدلاً. والسّبيل إلى فهم المقصود بلفظ التبشير في هذا المجال هو الرّجوع إلى المواضع التي ذُكر فيها خاصة من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - فمثلاً قال تعالى: "هُنَالِكَ دَعَا زَكَريَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ"[٨]، كما قال تعالى: "إِذْ قَالَتْ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهِ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيْهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المَقَرَّبِينَ"[٩].


ونقرأ البشارات نفسها في التّوراة والإنجيل، فلماذا كانت مجرّد ولادة يحيى وعيـسى بشارة من الله للنّاس؟ أليس لأنّ يحيى قدّر له أن يكون نبيّا وعيسى أن يكون كلمة الله؟ ولننظر إلى سيّدنا يعقوب، فقد كـان له اثنا عشر ولداً، ولم يكن من بين هؤلاء الإثني عشر بشارة غير سيّدنا يوسف وحده، لأنّه كان المقدر أن يكون نبيّا. إذا انتبهنا إلى ذلك أدركنا أنّ المراد بالبشارة في هذه المواضع هو التنبؤ بظهور رسول أو نبيّ جديد.


فكون سيّدنا محمد "مبشراً" يكون معناه أنّ من وظائفه المباركة التّبشير بمن يظهر من بعده الذي وُصف في عدد من الأحاديث الشريفة بأنه المهدي أو عيسى روح الله. وكما جعل الله تعالى ظهور الرّسل والأنبياء بشارة بفضله على خلقه كذلك جعل الإعراض عنهم، والاعتراض عليهم، موضوعاً للإنذار، والتحذير الشّديد تجنباً للدّمار والبوار الّذي يصيب المعرضين.


والرّسول الجديد يأتي ضرورة برسالة جديدة، والرّسالة الجديدة لا بد أن تهب الناس شريعة جديدة، وأحكاماً جديدة، وهو بذلك يعيد تنظيم وتدبير شئون العباد بما يتفق مع ضرورات التغيير الذي طرأ منذ الرسالة السابقة. فالصلاة والصوم والحج وغيرها مـن المناسك، وكذلك القوانين المنظّمة للمجتمع موجودة في جميع الرسالات، ولكنّها تختلف في الشّكل والرّسم مصداقاً لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ"[١۰]، فالصوم فريضة في كل الشرائع ولكن صورته تختلف من شريعة إلى أخرى. فالصوم عند المسلمين غيره عند النّصارى، وما عند النّصارى يختلف عمّا عند اليهود، ولكن الغاية هي هي، والمعنى واحد، وإنما الشّكل والرّسم هو الذي يتغيّر باختلاف الظّروف والأحوال.


ولما كان الرّاسخ في الأذهان عن الدّين هو مجموع المناسك والشعائر دون انتباه إلى الجوهر، فإنّ النّاس يميلون أكثر للبقاء على ما هم عليه، ومن ثمّ يندفعون كلّما جاءهم رسول جديد بأمر جديد إلى تكذيبه بدون رويّة أو تعقّل وتفكير. فكل ما يرونه أنّ الرّسول الجديد يدعوهم إلى شريعة جديدة تخالف ما عندهم، ولو تفكروا وأمعنوا النّظر قليلاً لوجدوا أن حقيقة الأمر الجديد غاية ما كانت تصبو إليه شريعتهم.


فعدم الانتباه إلى وحدة الدين من حيث النظر إلى حقيقته وجوهره جعل النّاس يتوقّفون عند حدّ الاسم والرّسم، ويحرمون أنفسهم من الفوز بنصيب من المواهب الجديدة. مع أن الاختلافات الظّاهريّة بين الشّرائع والأديان هي تعديلات متتابعة لدين إلهيّ واحد، لتجعلها موافقةً لمقتضيات الزّمان، كما قال تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نَنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا"[١١].


ونتيجة لهذه الغفلة، وكأثر مباشر للانحراف عن حقيقة الدّين وجوهره، إذا سألت اليهودي مثلاً عن سيّدنا المسيح فإنّه يجيبك على الفور بأنّه لا يؤمن به، ولماذا؟ لأنه نقض حكم السبت وخالف شريعة التّوراة ... إنه جاء بشرع جديد. وإذا سألت مسيحيّاً عن سيدنا محمّد قال: كيف تريدني أن أؤمن به وهو لم يحكم بشريعة الإنجيل ... إنّه غيّر أحكام الله التي علمنا يسوع المسيح. وقس على ذلك سائر الملل.


ومن أجل هذه الغفلة جرت الإنذارات والتحذيرات على ألسنـة رسل الله وأنبيائه جميعاً بدون استثناء. لأنّه لو لم يكن من مستلزمات الهداية الإلهيّة إحداث تغيير وتعديل في الشرائع الإلهيّـة وفقاً لاختلاف الأزمنة، لما كان هناك مبرّر للإنذار والتّحذير. والنّاس لا يعترضون على الرّسول الجديد لأنّه جاء يدعوهم إلى مكارم الأخلاق، وإلى العدالة الاجتماعية أو غيرهما من المناقب الإنسانية العالية، ولا لأنه جاء يدعـوهم إلى الله ولو اقتصر نداؤه على ذلك لما وجدوا صعوبة في تصديقه، وإنما أساس اعتراض الناس عليه أنه جاءهم بشريعة جديدة فيها فرائض وعبادات وأحكام ونظم تغاير ما لديهم منها. والمفكر المنصف يعترف بأنّ الرسول الجديد لو أتى بالشرع القديم، وبدون أحكام ومبادئ جديدة، لما كان هناك مبرّر لمجيئه.


فالرّحمة الإلهيّة تتجلّى في رسالاته، ورسالاته تحمل شرائعه، والرّحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء، والفيض الإلهيّ دائم لا ينقطع، وهذه سنّة الله. أمّا سنّة البشر، فهي الإعراض عن الرّحمة، والاعتراض على مهابط الوحيّ والإلهام ومشارق الفضل والإحسان، والإصرار على اتّباع الأوهام، ثم يكذبون. وإلى هذا يشير الله تعالى بقوله: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُم أَحَادِيْثَ فَبُعْداً لِقُومٍ لاَ يُؤْمِنُونَ"[١۲].


"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة