بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


خاتم النبيين

ورد وصف سيدنا محمد بأنه خاتم النّبيين في موضع واحد من القرآن الكريم في قوله تعالى: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليم"[١] وقد حمل المفسرون هذا الوصف على أنه يعني انتهاء الرّسالات السّماوية وأن محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر رسول يبعثه الله إلى النّاس. مع أن القول بانتهاء الأديان، وتوقف فيض الرحمن، - كما رأينا - مخالف لسنّة الله منذ بدء الخليقة، ومخالف لما جاء في آيات أخرى من الكتاب. وهو على أي حال من أخطر الأمور على مستقبل البشر الذين وعدهم الله بهدايتهم، ومورث للحيرة والارتباك لمناقضته لغير قليل من أسماء الله التي وصف بها ذاته العلية.


لقد عهدنا تكرار النصح وإعادة التحذير وتأكيد التنبيه في الكتب السماوية كلما تعلق الحديث بأمر ذي أهمية تذكرة للناس. ولا يكاد المرء يتصور أمراً أخطر في نتائجه من توقف الهداية والرحمة الربانية ومع ذلك لم يرد ذكر "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ" إلاّ في موضع واحد في القرآن كله، ولم يرد مؤكداً بصورة قاطعة أو سياق الحديث عن رسالات الله، وإنما ورد ذكره مرة واحدة في معرض الثّناء على حضرة الرّسول وتمييزه على باقي رجال أمّته، وتركت الآية الكريمة المجال واسعاً لفهم كلمة خاتم - بفتح التاء - على أنها تعظيم لقدر الرسول بين الأنبياء، بمعنى أنّه ليس كأحد من رجال العرب فحسب بل هو أيضاً رسول من الله وزينة الأنبياء.


ولا يمكن فهم معنى "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ" والمراد من الآية على الوجه الصحيح بمعزل عن المناسبة التي نزلت فيها، وأخذ سياق الكلام في الاعتبار، ولعلّ هذا هو الخطأ الذي أشكل فهمها. وتتلخص الظروف التي أحاطت بنزول هذه الآية أنّ النبي - ولم تكن له ذريّة من الذّكور على قيد الحياة - كان قد تبنّى قبل نبوّته زيد بن الحارثة، الذي كان من بين أوائل من دخلوا في الإسلام، وكان يدعى زيد بن محمد، واشتهر بحبّه لرسول الله، فساور البعض شكّ بأنّ زيد قد يرث النّبوّة من بعده على غرار ما جرى بين أنبياء بني إسرائيل وجاء ذكره في سورة الأنبياء، فإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلهم أولاد سيدنا إبراهيم أب الأنبياء. ألا يمكن أن يكون مراد الله من هذه الآية إذن قطع دابر الشكّ ببيان منزلة محمد ونفي النبوة من بعده بدون المساس بدوام مجيء رسل الله؟ فنزل قوله تعالى: "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ"[۲]، وقد ذكر القاموس الإسلامي في شرح خاتم الأنبياء: "يذهب بعض المفسّرين إلى أن المقصود من خاتم النبيين "بتاء مكسورة" أي أن الرسول لا يكون له ابن يصبح من بعده نبيّاً"[٣].


وشعر المفسرون أن ذكر "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ" في هذا السياق لا يكفي في حدّ ذاته لاستنباط حكم عام يبدل سّنّة الله في إرسال رسله ومبعوثيه لهداية الناس وحجة عليهم، على النحو الذي رأيناه سابقاً. فالزعم بتبديل هذه السّنة التي قال تعالى عنها: "‬سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً"[٤] يحتاج إلى دليل قاطع، فاستندوا إلى حجتين جديدتين أولاهما: أن الإسلام هو الدين الوحيد المقبول لدى الله، وثانيتهما: أن الرسل هم أيضاً أنبياء، فإذا فسرنا محمد خاتم النبيين على أنه آخرهم فذلك يعني أيضاً أنه آخر المرسلين. وسنناقش الحجة الأولى الخاصة بالإسلام في الفصل التالي، ونكتفي هنا بمناقشة الزعم بأن خاتم النبيين تعني أيضاً خاتم المرسلين رغم عدم ذكر ما يفيد ذلك في أي موضع من القرآن الكريم.


فسيدنا محمّد، بنصّ القرآن الكريم، حائز لمقامين: "رسول الله" و "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ"[٥] ولو فرضنا جدلاً أن خاتم النبيين تعني آخرهم - رغم أن هذا الفرض لا يتفق مع سياق النص - فإنه بدون شك لا يفيد أنه خاتم المرسلين. ولكن ذهب كثير من النّاس إلى تعميمه ليشمل الرّسالة أيضاً، والذين يقولون بهذا الرأي لم يفطنوا إلى الفصل الصريح في الآية المباركة بين منزلة النبي ومقام الرّسول، فالرّسول هو من يبعثه الله بشريعة والنبيّ من يسوس الناس وفقاً لشّريعة موجودة، وقد ذكر القرآن أن بعض الرسل كانوا أيضاً أنبياء كقوله: "وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوْسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا"[٦]، ولو كان كل الرسل أنبياء لما خصّ القرآن بعضهم فقط بهذا الوصف.


ولم يترك سيّدنا محمّد أمّته في شكّ من أمر الفصل بين المقامين، بل فصّله تفصيلا بقوله: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ، ولكن لا نبيّ بعدي فسيكونون خلفاء فيكثرون"[۷].


ومع ذلك يذهب البعض إلى أنّ النّبوّة أعمّ من الرّسالة، ثمّ ينتهون إلى القول بأنّ خاتم الأعمّ معناه خاتم الأخصّ. وكلّ ذلك تخريج وتعقيد، والأمر سهل: الرّسول يأتي بالكتاب والشّريعة، والنبيّ لا يأتي بكتاب ولا بشريعة، وإنما هو على شريعة الرّسول، بمعنى أنّه يدبر شؤون الأمة في ظلّ الشّريعة التي أتى بها الرّسول. وتدبير شؤون الأمّة قد يتحقّق بغير النبيّ، قد يتحقق بالأئمة أو بالخلفاء، كما ورد في الحديث الشريف، ولكن لا تأتي الرّسالة والشريعة إلاّ على يد رسول، فكيف يقال بأنّ النبيّ هو الرّسول، وأنّ ختم النّبوّة يعني ختم الرّسالة؟ لماذا يعقّد البشر الأمور على أنفسهم، ويريدون بها العسر والله تعالى يريد اليسر؟


ونحن بهذا التساؤل لا نهيب بالنّاس أن يحكِّمُوا عقولهم وحدها، فالعقل قد يخطئ، ولكنّنا نهيب بهم أن يرجعوا أيضاً إلى النصوص المباركة التي لا تخطئ. وقد اختصّ الله تعالى رسله بالكتاب والشّريعة، وقَصرَ وظيفة النبيّ على تدبير شؤون الأمّة وترويج الدّين من بعد الرّسول، واستبدل سبحانه وتعالى في دورة الإسلام - بمعناه الخاص - الأنبياء بالأئمّة والخلفاء، فما لنا بالأخصّ والأعمّ في هذه الحالة الواضحة الصريحة؟ المسألة في غاية البساطة. الرّسول والنبيّ هما بمثابة الأصل والفرع - الرّسول أصل والنبيّ فرع، فإذا قال تعالى بانتهاء الفرع فإنّ الأصل باق، أمّا إذا قال تعالى بانتهاء الأصل أي الرّسول، عندئذ فصل الخطاب - فلا رسول ولا نبيّ. والله تعالى لم يقل بختم الرّسالة، بل قال بختم النّبوّة، فلماذا يقول البشر ما لم يقل به الحقّ سبحانه وتعالى وهو أعلم بمراده؟


قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى"[٨]، قال النسفي: "وهذا دليل واضح على ثبوت التغاير بين الرّسول والنّبيّ بخلاف ما يقوله البعض أنّهما واحد. وسئل النّبيّ عن الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فقيل كم الرّسل منهم فقال ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير".


لا يمكن أمام هذه الحقائق أن يتردّد إنسان في فهم "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ" على الوجه الصحيح، فحتى على فرض أن خاتم النّبيين تعني آخرهم فإنها لا تفيد ختم الرّسالات الإلهية على الإطلاق، ولا يمكن تصور الحياة بدون هذه الرحمة والهداية الإلهيتين. وتفريعا على هذا يكون القول بعدم ظهور رسول من بعد سيّدنا محمد انحراف عن صريح نص كتاب الله.


والأدهى من ذلك أن المفسرين غضّوا نظرهم عن الإشارات والبشارات العديدة المنبئة عن مجيء رسول من بعد محمد، وأهملوا الآيات المتكررة بتأكيد سنّة الله وتتابع رسله ودوام فيضه، ليبنوا رأيهم بانتهاء الأديان على لفظة منفردة وردت في موضع واحد في الكتاب ولا تفيد الانتهاء على وجه القطع واليقين. ثمّ دأبوا على تكرار ذلك في كل مناسبة لكي يغرسوا في أذهان الناس بالتكرار ما لم يرد به نص على محمل اليقين.


فقد رأينا سابقاً أنّ كلّ أمة اعتقدت بأنّ رسولها خاتم الرّسل، ودينها ختام الأديان، وعلى الأخص أمّة اليهود التي أصرّت على هذا الزعم مرتين بقولها أن الله أمسك عن إرسال الرّسل بعد موسى وبه انقطع الرّزق الرّوحاني عن البشر، فردّ سبحانه وتعالى على هذا الافتئات بلومهم على إصرارهم على الباطل وتكذيبهم للسيّد المسيح ثم لمحمد: "وَلَقَدْ جَاءَكُم يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُم فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُم لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ"[٩]، وأعاد لومه في موضع آخر بعبارة أشدّ وأقسى في قوله تعالى: "قَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيِديهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشَاءُ"[١۰]، فالمراد هنا ليس بسط الرزق المادي الذي يفيض به الرزّاق على المؤمن وغير المؤمن ولكن المراد هو الرّزق الرّوحاني الذي يختص به الله من هو أهله.


ثم يبسط سبحانه وتعالى سنته التي لم تتبدّل ولن تتغيّر على طول الأزمان، ويضعها أمام الناس كقانون أساسي واضح كلّ الوضوح: "ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُم أَحَادِيْثَ فَبُعْداً لِقَومٍ لاَ يُؤْمِنُونَ"[١١] وكذلك قوله تعالى: "يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُم رُسُلٌ مِنْكُم يَقُصُّونَ عَلَيْكُم ءَايَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"[١۲].


نخرج مما سبق أنّ فهم البشر لآيات الله ليس بمفازة عن الخطأ في بلوغ مراد الله خصوصا في تأويله للآيات التّي جعل الله بيانها وتأويلها من اختصاصه تعالى في يوم موعود. فالقرآن الكريم، وصف محمد بخاتم الأنبياء، ولم يذكر في أي موضع من كتابه العزيز انتهاء الدّين، ولا انقطاع الوحي، ولا توقف الرسالات السماوية، بل أكّد تعاقبها واستمرار الهداية الإلهية: ولو أراد تعالى أن يكون القرآن الكريم ختام هدايته لما جاءت فيه آيات كثيرة أخرى محمّلة بالتأكيد على سنّته في إرسال الرسل، ولعن الأمم السابقة لقولهم بأبدية كتابهم وانتهاء كلماته تعالى التي لا تكفي بحور العالم وأشجاره لكتابتها.


ولا شيء يساعد الطالب الصّادق على الفهم الصّحيح، غير إغماض العين عن كل شيء سوى نور الله، وصمّ الأذن عن كلّ صوت سوى صوت الله، فهذا كلّه من مستلزمات التّحري عن الحقيقة، حتّى يرى كلّ إنسان بعينه، ويسمع بأذنه، ويفهم بعقله، ولا يتّبع المغرضين. لأنّه لا يوجد نبأ أعظم من نبأ ظهور الموعود، ولا نكبة أشد من الإعراض عن هذا النّبأ العظيم. فتحر الحق وصفاء الطويّة، وسلامة القلب، هي النّور الذي يهدي إلى الحقّ، والدّهن الذي يغذّي مصباح التّقوى، كما قال تعالى: "وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعْلِّمُكُم اللهُ"[١٣].


والمتوجه إلى الله لا يعلّق إيمانه على رأي الغير، بل يفكّر بعقله، وينظر بعينه ويسمع بأذنه لا بأذن الآخرين، ولا يترك للتّقاليد أن تقف حجر عثرة في سبيله إلى الله، فكم من التّقاليد والعادات القديمة تركناها، وكم من نظريّة قديمة أخلت مكانها لأخرى جديدة. وإن لم يجتهد الإنسان ويفتح ذهنه للنداء الإلهي الجديد فإنّه يظل في ظلمات التقليد مردداً ما قاله الأولون: "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُهْتَدُونَ"[١٤].


أمّا السّبب الأساسيّ الذي حدا بالمفسّرين على استنباط معان لا تحتملها ألفاظ الآية المذكورة هو كما - ذكرنا سابقاً - افتراضهم أنّ ختم النّبوّة يعني ضرورة ختم الرّسالات الإلهيّة وانتهائها، وبذلك استبعدوا إمكان ظهور رسول آخر بعد سيّدنا محمد، ومن ثمّ فسّروا كل إشارة إلى رسالة إلهية في المستقبل على أنّها لا بد أن تعني رسالة سيدنا محمد. ولو أنّ الاجتهاد تجنّب الفروض المسبقة واعتنى ببيان الحقيقة المذكورة في الكتاب كما وردت فيه لتجنّبت تفاسيرهم المثالب واهتدى بها قوم كثير.


ولا أظهر اليوم من الحاجة إلى التّجديد والهداية والإصلاح في عالم مضطرب صرفته الماديات عن الروحانيات. وهكذا سدّ هذا التفسير أبواب الهداية في وجه المؤمنين وصرفهم عن اتباع من بعثهم الله بالحق، وأفسح الميدان لمدّعي الإصلاح الذين ركّزوا حركاتهم على هذه التفاسير المنحدرة في وهدة الظنون والأوهام، وتزعم أن الفيض الإلهامي، والوحيّ الإلهيّ قد انقطع إلى الأبد بعد النبيّ فلا يظهر بعده إلاّ المصلحين.


ولهذا يردد البعض أنشودة الإصلاح الّتي يطرب لها العامّة في حياتهم الّتي جفّت روحانيتها بانتشار المفاسد والشّرور. وطالما أنّ المنادين بالإصلاح يؤسّسون دعوتهم على المعتقدات والأفكار والتفاسير المألوفة عند النّاس فلا بدّ أن يجدوا الكفاية من المريدين، وطالما أنّ وحدة الأمّة مفتتة بالطّرق والشّيع والمذاهب المتعدّدة فلن تضيق رقعتها في وجه المزيد مهما استجدّ ويستجدّ؟ وكلّ مدع قام في الأمّة زعم أنّ غايته الإصلاح، فما هو الإصلاح؟ أهو مجرّد عنوان يخلب الألباب، أو أفكار عارضة توهم بتغيير سطحي يجلب الأتباع؟


إن الإصلاح الديني هو تخليص المعتقدات الدينية من شوائب الخرافات والأوهام التي تدخل عليها بمرور الوقت. والإصلاح هو إذكاء روح الدين التي يعتريها الفتور بمرور الزمن كما قال تعالى: "وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم وَكَثِيرٌ مِنْهُم فَاسِقُونَ"[١٥]، والإصلاح هو تشريع الأحكام المناسبة لمعالجة ما يواجه حاجات البشر وفقاً لظروف الحياة ومقتضيات العصر. والإصلاح هو إخضاع النفس البشرية للمبادئ والمثل التي ترقى بالناسوت إلى علياء الملكوت.


والإصلاح بهذا المعنى هو جوهر الرّسالات الإلهيّة وعمل أوكله الله إلى رسله الذين يبدأ كل منهم حلقة جديدة من حلقات خطة إلهية متدرجة لسمو الإنسان إلى معارج الكمال الروحاني، والإصلاح هو النور الذي هدى الأنام منذ بدء الخلق وما زال يقود الإنسانية قدماً في الطريق الممتدّ بامتداد الدهر. ولم نر في التاريخ مصدراً للإصلاح غير هذا. فالإصلاح نسمة هابّة من رياض رحمة الله، رقيقة منعشة شافية محيية خلاّقة بقدر ما هي قويّة شديدة ثائرة، تحرّك عقول النّاس وقلوبهم كما تحرّك الرّيح البحار السّاكنة، وترفع الأفكار نحو آفاق الرّقي، وتدفع بالأيدي للعمل في مختلف الميادين.


ونعود إلى ما كنّا بصدده. بعد أن رأينا فيما تقدم مدى تمسك كل أمة بأن شريعتها هي آخر الشرائع وأكملها، رغم تناقض هذا الاعتقاد مع تبشير كتابها المقدس بمجيء مبعوث إلهي مقبل. وظهرهذا التناقض على وجه الخصوص بين اعتقاد المسلمين بنزول المسيح وبين تفسيرهم "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ" على أنه يعني انتهاء النبوة والرسالة بمحمد. ولرفع هذا التناقض ذهب البعض بأن مجيء المسيح لن يتوافق مع تنزيل شرع جديد، ولكن هذا التفسير لا يتفق ومفهوم ختم النبوة، كما أنه لا يتفق مع الإصلاح الجذري الذي سيقوم به المسيح لنشر العدل وإقرارالسلام وتجديد الشرع، كما جاء في العديد من الأحاديث الشريفة، وكلها تقتضي تشريعا جديدا، فيكون من الصواب أو الأكثر صوابا أن نفهم خاتم النبيين على نحو أكثر اتساقاً مع النصوص المباركة وعلى ضوء المبدأ الثابت بأن الدين عند الله واحد.


ولنتمعّن في قوله تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدَّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيْمَ وَمُوْسَى وَعِيْسَى أَنْ أَقِيْمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيْهِ"[١٦] لنتبين أنّ القرآن الكريم صريح في أنّ الدين واحد، مع أن الأحكام متغيّرة وفقاً لمشيئة الله وحكمته وتبعاً لمقتضيات الزّمان، بل قد تفتضي الحكمة تغيير الأحكام حتى في زمن الرسول نفسه، كما حدث في تبديل القبلة، وكما اقتضى نسخ بعض الأحكام بعد تنزيلها. فيكون من الأحرى إذاً أن تتبدل أحكام الشرائع المتتالية رغم ثبات أصولها وثبوت وحدتها، بمعنى أن إسلام العبد وانقياده لإرادة الله - وهو أصل الدين - واحد في كل الأديان، أمّا الأحكام المتفرعة عن هذا الأصل والتي تحكم سلوك الناس فهي مختلفة من رسالة إلى أخرى. فدين الإسلام إلى الله الذي أمر به سيّدنا محمد المسلمين، هو نفس الإسلام إلى الله الذي أمر به سيّدنا نوح، وإبراهيم ،وموسى، وعيسى عليهم صلوات الله أجمعين، مع اختلاف شريعة كل منهم عن سواها في تفاصيلها وشعائرها.


ووحدانية الدين نتيجة طبيعية لتسليمنا بوحدانية الله لأن الدين كلامه وإرادته تتصفان بصفته. ووحدانية الرسالات السماوية تستتبع اتحاد المظاهر الإلهية الذين يحملون هذه الرسالات. لقد قال السيد المسيح مبشراً حوارييه بمجيء محمد: "أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُم"[١۷]، كما قال لهم في موضع آخر مبشراً بمجيء سيدنا محمد: "إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ المُعَزِّي"[١٨] ثم أضاف إلى ذلك: "إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاًَلأَِقُولَ لَكُمْ لاَ تَسْتَطِيْعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الحَقِّ"[١٩]، ومعنى هاتين العبارتين ومقصدهما عند أهل الحقيقة والعرفان واحد لأن اختلافهما الظاهر يرجع إلى المراتب المتعددة التي يعبر عنها المتحدثون باسم الهوية وتختلف هذه المراتب بين منزلة التجريد ومنزلة التعيين. فمثل مرتبة التجريد ما عناه سيدنا محمدمن قوله: "أنا عيسى"، حيث ينعدم في هذا المقام أي فرق أو تفاوت بينهما، ولا يُرى في مهامهما تفاوت من حيث الجوهر، لأن كلاهما يعرب عن إرادة الله الواحد، وكلاهما يمجد ذكره وثناءه تعالى. فالحقيقة التي مادأبت ترددها آيات الكتب المقدسة وكلمات المبعوثين بها هي أن للمظاهر الإلهية الذين يبعثهم الله إلى بني الإنسان حالتان: "حالة هم فيها في علياء التجريد، ومجتمعين في هيكل التفريد، وليس لهم في هذه المرتبة سوى وصف واحد واسم واحد، ولا تحركهم إلاّ مشيئة واحدة، ويعكسون جميعاً أنوار الأحدية بحيث يصدق عليهم في هذا المقام وصف الله تعالى: "لاَ نُفَرِّقُ بِيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم"[۲۰]، وهو ذات الحالة التي أعرب عنها الرسول الأمين بقوله: "أمّا النبيون فأنا" وهذا المقام مقدس عن الكثرة وعوارض التعدد ولهذا يقول تعالى: "وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ"[۲١]، وغني عن البيان أن مظاهر الأمر الواحد شأنهم واحد وغايتهم واحدة.


وللمظاهر الإلهية أيضاً حالة هم فيها على مستوى العالم المشهود حيث ينزلون إلى الرتبة البشرية وهو مقام التفصيل لا التجريد، فيكون لكل منهم شأن خاص، وأمر مقرر، ووصف متميز، وأمر بديع وشرع جديد، وهو المقام الذي وصفه تعالى بقوله: "تِلْكَ الرُّسُلِ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ"[۲۲].


ونظراً لاختلاف هذه المراتب والمقامات تظهر بيانات وكلمات المظاهر الإلهية مختلفة تبعاً للمنزلة التي يتحدثون منها، وإلاّ في الحقيقة تعتبر جميعها لدى العارفين بمعضلات المسائل الإلهية في حكم كلمة واحدة. ولكن لعدم معرفة أكثر الناس بهذه المقامات يختلط عليهم الأمر وتسري إلى قلوبهم الريبة من جراء اختلاف الكلمات الصادرة من تلك الهياكل المقدسة.


ولعل من أقوى الأدلة على أن وصف "خَاتَمَ النَّبِيِّينَ" لا يتعارض مع مجيء المبعوثين من الله مستقبلاً كما جاءوا في الماضي، الوعود والبشارات التي أوردها القرآن ورددتها الأحاديث الشريفة عن مجيء المهدي وعيسى لإصلاح العالم بعد أن يستشري فيه الفساد والظلم والعدوان.



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة