بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


المهدي وعيسى

بقي الاعتقاد بظهور المهدي ونزول عيسى محوراً لمعتقدات المسلمين منذ صدر الإسلام إلى زمن قريب. فقد أدرج الدكتور مصطفى غالب في بحثه عن قائم القيامة جانباً من أسانيد هذا الاعتقاد نقتبس منها جزءاً يسيراً: "ويمكننا في ضوء الأحاديث التي أخرجها الترمذي وابن داود والحاكم وابن ماجة - وهي أحاديث مسندة إلى الإمام علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأم سلمة - أن نؤكد أن فكرة المنقذ أو المخلص المهدي قد شاعت لدى المسلمين عامة، وخاصة أهل السنة، وإن لم تتقرر كأصل من أصول العقيدة كما هو الحال لدى الشيعة"[۱].


ويواصل الدكتور مصطفى غالب قوله: "ومن الملاحظ أن ابن تيمية يؤكد هذا الحديث الذي رواه ابن عمر ويقر بصحته: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وذلك هو المهدي. وقول النبي: المهدي من عترتي من ولد فاطمة. كما يرى ابن تيمية أن أحاديث المهدي صحيحة مستنداً إلى مسند أحمد وصحيح الترمذي وابن داود"[۲].


ولكن أثار في القرن الثّامن الهجري نفر من العلماء الشّكّ حول الأحاديث الشّريفة المرويّة عن ظهور المهدي، بحيث لم تسلم أوثق الأحاديث سنداً وروايةً من التشكيك في صحتها أو صراحتها. أمّا عودة المسيح عليه السّلام فلم يثر حولها خلاف يعتد به لورود ذكرها صراحة في القرآن الكريم.


ويمكن إرجاع جذور هذا الاختلاف في الفهم إلى زعم كثير من المفسرين أنه لا مكان لظهور رسالة أخرى بعد رسالة محمد، ولا مجال لنزول أحكام جديدة بعد الأحكام التي أتى بها القرآن الكريم. ويتمسك المسلمون بهذا الفهم مع وضوح مناقضته لسنة الله. وهذه أراء لا جديد فيها فقد قال بمثلها أتباع كل الأديان السابقة على الإسلام. فذهبت كل أمة من الأمم السابقة في تفسير آيات كتابهم على النمط نفسه وانتهوا جميعاً - بدوافع الحب والولاء لدينهم - إلى أن شريعة كل منهم هي أكمل الشرائع ومنتهاها، وأن بمجيء رسولهم ختمت الرسالات السماوية، ثم اعترضوا على رسل الله الذين جاءوا من بعد مستندين إلى آراء مطابقة لما يقول به المسلمون اليوم. سواء عن انتهاء الفيض الإلهي، أو عن دوام أحكام الشريعة الإسلامية وصلاحها لكل زمان مهما تغيرت الظروف والأحوال. فيرتكبون بذلك - من حيث لا يعلمون - الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة.


ولعل أقرب مثال لهذا التواتر التاريخي في الاعتقاد بنهاية الرسالات الإلهية هو موقف بني إسرائيل لأنه مثال كثرت مواثيقه، وتكرر أكثر من مرّة. فمن الأوهام الّتي تمسك بها أهل التفسير في الأمة الإسرائيلية أن دينهم هو آخر الأديان وأن أحكام التوراة نهائية وكاملة، ثم وفّقوا بين هذا التصور وبين ما لديهم من بشارات بمجيء السّيد المسيح بقولهم أنه عندما يأتي سيحكم بالتوراة. ويكون سلطاناً جالساً على عرش الملك، ومحرراً لهم يعيد مجدهم التليد، ولا يبدل من شريعة موسى شيئاً.


وأضحت هذه الصورة أحد التقاليد الراسخة حتى اليوم، وما زال قادة الفكر من بينهم يعيدون ذكرها بكل تأكيد وفي كل مناسبة كما يقول ناحوم جلاتزر: "سيأتي المسيح في الوقت المحدّد ليؤسّس مملكة داود في المكان ذاته الّذي كانت فيه، وداخل الحدود الّتي كانت لها، وسيبني المحراب ذاته، ويجمع المشتّتين من أبناء إسرائيل، وفي أيامه ستعود الأحكام إلى ما كانت عليه في زمان السّلف... إنّ التّوراة وشريعتها وأحكامها هي لكلّ زمان. ولا يوجد ما يمكن إضافته إليها، ولا فيها ما يمكن حذفه منها"[٣].


وقد فند القرآن الكريم زعم تأبيد شريعة موسى عليه السلام وقول اليهود بانقطاع الرسالات الإلهية من بعد رسالته بقوله تعالى: "قَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيِديهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشَاءُ"[٤].


وجاءت بعد ذلك شهادة الرسول الأمين على أن عيسى ابن مريم هو المسيح الذي بعثه الله بالحق وبشر بمجيئه بني إسرائيل من قبل. فلم يعد هنالك شك في خطأ التفسير الذي قال به علماء اليهود في هذا الخصوص، ولا زال جارياً على ألسنة كهانهم إلى اليوم. ولم يكن قولهم بأبدية شريعة موسى عليه السلام خطأهم الوحيد فقد رسموا لمجيء السيد المسيح صورة أوحاها خيالهم وتعظيمهم لمجيئه، فلما أتى المسيح على خلاف هذه الصورة أنكروه وكذبوا به. وقامت تفاسيرهم وتصوراتهم حائلاً بينهم وبين الإيمان برسالة حقة.


وقد تجددت هذه الاعتراضات في زمن سيدنا محمد فأعرض عنه أهل الكتاب رغم أن الله قد بشرهم بمجيئه: "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً"[٥]. فبين الله فساد هذا الوهم بقوله تعالى: "وَلَوُ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَللَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ"[٦] منوهاً إلى أنّ أوصاف العظمة والجلال والسّلطنة والجمال المنسوبة إلي رسل الله هي صفات وآثار روحانيّة متجليّة على هياكلهم النوراء، ولكن يعجز النّاس عن إدراكها لكثافة الحجب الّتي خلقها خيالهم، وأبعدهم بها عن الواقع، فضلّوا عن المقصود.


وسلك المفسرون للقرآن المجيد على نمط مشابه للأمم التي سبقتهم سواء في تجاسرهم وتكالبهم على تأويل المتشابهات بحيث توهموا انقطاع الوحي الإلهي رغم الوعود الأكيدة بإرسال المبعوثين الإلهيين كلما استدعت ظروف واحتياجات الإنسانية الهداية والإصلاح، فذهبوا في تفسير مقام خاتم النبيين إلى إنكار بعث الرسل من بعد محمد، رغم صراحة النصوص المباركة على العكس، فأثار كل ذلك الشبهات حول نبوءة مجيء المهدي ونزول عيسى. وجدير بنا أن نلقي نظرة عاجلة على كل من هذه الشبهات بعد أن نستعرض بعض الأمثلة التي تبين تعسّف المفسرين.


أولاً: تعسف المفسرين


من المسلّم به أن فهم النّصوص المباركة لا يقتصر على ما تدلّ عليه ألفاظها أو يؤدي إليه سياقها، بل يجب أيضاً أن تأتي معانيها وفقاً لما يتّفق مع العقل. فلا يتصوّر من الله أن يطالب النّاس بأن يؤمنوا بما لا تقبله عقولهم وهو الذي أكثر من لوم الذين لا يعقلون ولا يفقهون. ولا مناص من التسليم بأن تفسيرالآيات الإلهية عمل بشري لا عاصم له من الخطأ، ويتوقف في جلائه ومدى قربه من الصواب على علم المتصدين للتفسير، وعلم هؤلاء يختلف باختلاف أشخاصهم واختلاف زمانهم، ويزداد ويرقى مع جهود العلماء ومثابرتهم على البحث والتنقيب على مدى الأيام. فلا وجه للإفاضة في خلع حلل التقديس على هذه الجهود البشرية، خاصة وأن لدينا اليوم الكثير من الأدلة القاطعة على خطئها.


ومن الأمثلة على هذا الخطأ ما زعمه قديماً غير قليل من المفسرين أن السموات السبع هي أجسام مصمتة صلبة طبقات فوق بعضها البعض، وزجاجية شفافة لا تمنع نفوذ ضوء الأجرام المعلقة بها لتزينها، وأن الشمس تدور حول الأرض الساكنة ومن حركتها تعاقب الليل والنهار. وكان ذلك تفسيراً لآيات القرآن التي ورد فيها ذكر هذه الظواهر، ومنها: "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوقَهُمْ كَيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ"[۷] وقوله تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"[٨] وتمسكوا بهذه التفاسير مع أن نص هذه الآيات الكريمة وأمثالها يفيد أن الشمس تجري مع استقرارها فهي لا تدور حول الأرض بل تدور حول محورها.


والذي أوقع المفسرين في الخطأ أنهم أرادوا التوفيق بين ما جاء في القرآن وبين النظريات العلمية السائدة في زمانهم مما قال به بطليموس الروماني مثلاً عن دوران الشمس حول الأرض، فأوّلوا الآيات ليتفق معناها مع تلك النظريات، فقالوا أن "لمستقر لها" هي في الأصل لا مستقر لها. كما ذكر ابن كثير: "وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم والشمس تجري لا مستقر لها أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً لا تفتر ولا تقف".[٩]


ومثال أخر للتعسف في التفسير نجده في تفسير سورة البينة في قوله تعالى: "لَمْ يَكُنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنْ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيْهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ"[١٠] حيث قال المفسّرون بأنّ الأحداث الّتي وعد القرآن الكريم بوقوعها في المستقبل قد وقعت في الماضي في محاولة منهم للتوفيق بين تفسيرهم لهذه الآية مع زعمهم بانتهاء الرسالات السماوية.


فقد ذهب أكثر المفسّرين في تفسير "حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ" إلى القول بأنّها إشارة إلى ظهور سيّدنا محمّد، فجعلوا معنى الآية أن أهل الكتاب والمشركين ما زالوا على ما هم عليه من ضلال حتى مجيء الإسلام الّذي يبدّل حالهم. ولا يستقيم هذا التّفسير مع قواعد اللّغة العربية، ولا مع المعنى المستخلص من سياق الكلام، فضلا عن مناقضته للواقع.


فقواعد اللّغة العربية واضحة في أن الفعل المضارع لا ينُصب بعد "حَتَّى" إلاّ إذا دلّ على حدث مستقبل[١١]، وقد جاء الفعل "تَأْتِيَهُمُ" منصوباً بعد حتى، فيكون المعنى المراد في هذه الآية أن أهل الكتاب والمشركين باقون على ما هم عليه من اختلاف وتفرق إلى أن تأتيهم البيّنة مستقبلاً، وتواصل الآيات التالية شرح حال أهل الكتاب في وقت التنزيل فتبين أنهم ما تفرّقوا إلاّ بعد أن جاءتهم بيّنة القرآن، وأنهم منفكين على هذا الحال حتى تأتيهم البيّنة المقبلة: "رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيْهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ". ولا يحتاج الإنسان إلى جهد كبير ليفهم الآية المباركة فقد رتّبها الله تعالى بحيث تصرح بالمعنى، فأشارت إلى أنّ بظهور هذه االبيّنة تنتهي حالة الشحناء بين الطوائف المختلفة، وترتيباً على هذا نخرج بالنّتائج الآتية:


إنّ سيّدنا محمد لم يكن المقصود في الآية المباركة، ولا الكتاب الّذي نزل على سيدنا محمد. وأنّ الآية المباركة تشير إلى أكثر من كتاب واحد. ولقد لمس العلاّمة محمد فريد وجدي هذه الحقيقة في تفسيره لهذه الآية المباركة بقوله: "لا يزال الذّين كفروا بالإسلام من أهل الكتاب والمشركين مقيمين على ما هم عليه حتّى يأتيهم دليل على صدقه، وهذا الدّليل هو رسول من الله يقرأ عليهم صحفا مطهّرة فيها مكتوبات مستقيمة داعية إلى الصّراط السّوي".


والخلاصة كما يقول العلاّمة محمد فريد وجدي أنّ لفظة منفكّين معناها الدّوام والاستمرار فإنّ النّزاع والجدال لم يتوقّف بنزول الرّسالة المحمّدية المباركة، وزواله منوط بظهور بيّنة أخرى في زمن غير زمن الرّسول وأنّ هذه البيّنة المرتقبة هي رسول جديد يحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه.


وما هذه إلاّ أمثلة قليلة من جم كثير لا نرى موجباً للإفاضة فيه لبلوغ المقصد، وهو أن التفاسير التي كانت في الأزمنة الغابرة سائغة ومقبولة في حدود ما أوتي أهل تلك الأزمنة من معارف كانت في طور طفولتها، قد تبين وثبت خطؤها وانحرافها عن الحق بما أوتينا في هذا العصر من العلوم والأفكار التي تسمح لنا بفهمها على نحو آخر أقرب إلى المنطق السليم، فلم تعد النتائج التي يتوصل إليها الإنسان بسنوحاته وخياله كافية لإشباع فضوله العلمي، ولا يرضى عقله اليوم إلاّ باكتشاف الحقائق على أساس البراهين الواضحة والحجج القاطعة. فإذا كان ذلك حظ السلف في فهم الآيات الواضحة الدلالة فما بالك في فهمهم للآيات التي احتوت على أمثلة وكنايات وإشارات ومعاريض؟


ثانياً: افتراض نهاية الوحي


سبحان الله ترسم سورة هود صورة كاملة عن قصص الأنبياء وما ورد عليهم. فسيّدنا نوح قام يدعو قومه: "فَقَالَ المَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُم عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُم كَاذِبِينَ"[١۲] وكذلك سلك قوم عاد مع هود، وقوم ثمود مع صالح، وقوم لوط مع إبراهيم، وأهل مدين مع شعيب، وآل فرعون مع موسى، واليهود مع عيسى، وأهل الكتاب وعبدة الأوثان مع محمّد. مسلك واحد وموقف يتكرّر كلّما جاء رسول يدعو النّاس إلى الحقّ والهدى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا"، وجواب الحقّ سبحانه على هذه الجهالة المهلكة: "أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ"[١٣].


وإيضاحاً لهذه الحقيقة التاريخية، يقول السيّد علي نخجواني في "مذكّراته":


١- أمرت التوراة اليهود بأن يحفظوا السبت: "لِيَصْنَعُوا السَّبْتَ فِي أَجْيَالِهِم عَهْداً أَبَديّاً. هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلاَمَةٌ إِلَى الأَبَدِ"[١٤] ويستدلّ اليهود بهذه الآية المباركة على أبديّة شريعة التّوراة بحيث لا يمكن لها أن تتغيّر أو تتعدّل، وظاهر النّص صريح يؤيد هذا التخريج. ولكن غفل مفسّروهم عن أنّ الأبدية المشار إليها في الآية محدودة بأجل أمّة بني إسرائيل لا بأجل الكون، وهو ما يستفاد من قوله: ليصنعوا السّبت في "أجيالهم" عهداً أبدياً. ومع ذلك نسخ سيّدنا عيسى وسيّدنا محمّد من بعده حكم السّبت، والناسخ والمنسوخ كلاهما من عند الله.


٢- وذكر في الإنجيل في ثلاث مواضع من رؤيا يوحنا اللاهوتي بأن سيّدنا عيسى هو: "الأَلِفُ وَاليَاءُ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ" وأنه أيضاً "الأوّل والآخر"[۱٥]، وجاء تأكيد قاطع بأبدية شريعته في ثلاث مواضع أخرى: "السَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَن وَلَكِن كَلاَمِي لاَ يَزُول"[١٦]، أي كلام المسيح. وفسّر القوم هذا الكلام وفقاً لظاهر ألفاظه بما يفيد أن سيّدنا عيسى هو آخر الرسل، ولن يبعث الله من بعده ديناً آخر. ومع ذلك ظهر سيّدنا محمد وجاء بالقرآن الكريم، وكلاهما حقّ من عند الله.


فتمسك اليهود بأبديّة شريعة التّوراة وإنكارهم إمكان ظهور رُسُل من بعده بشرائع مغايرة، قد صرف نظرهم عن البشارات التي ذكرتها التّوراة، مثل ما جاء في قوله: "وَهَذِهِ هِيَ البَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ اللهُ بَهَا مُوْسَى رَجُلُ اللهِ بنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوتِهِ فَقَالَ جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلاَلاَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ القُدْسِ وَعَنْ يَمِيْنِهِ نَارُ شَرِيْعَةٍ لَهُمْ"[١۷]، وفي هذا إشارة إلى مجيء موسى "من سيناء"، وظهور عيسى "من سعير"، وبعثة محمّد "من فاران"، وارتفــاع نداء حضرة بهاء الله من مشارف "المسجد الأقصى" الذي بارك الله حوله.


وتشبّث المسيحيون أيضاً بأبديّة كلام السيد المسيح وغضّوا النظر عن قوله: "لَكِنِّي أَقُولُ لَكُم الحَقَّ إِنَّهُ خَيرٌ لَكُم أَنْ أَنْطَلِقَ لأَِنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ المُعَزِّي وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُم"[١٨]، وكذلك قوله في موضع آخر: "والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الّذي أرسلني. بهذا كلّمتكم وأنا عندكم. وأمّا المعزّي الرّوح القدس الّذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم بكلّ ما قلته لكم"[۱٩]، هذا بالإضافة إلى قوله: "ومتى جاء المعزّي الّذي سأرسله أنا إليكم من الأبّ روح الحقّ الّذي من عند الأبّ ينبثق فهو يشهد لي"[۲۰]، ويقرأ أهل الإنجيل هذه البشارات الكبرى فيؤولونها على أنها إشارة إلى حلول روح القدس على التلاميذ بعد صعود المسيح إلى الرفيق الأعلى.


لا نزاع في أنّ خطأ عظيماً قد وقع من كل الأمم - عفواً أو عمداً - في تفسير كلام الله وفهم مراده نتيجة للتركيز على ما جاء في آية أو آيتين وإغفال ما جاء في غيرهما، أو تأويل ما جاء في قسم من الآيات ليطابق ما استخلصه المفسرون من آيات أخرى يحبّذونها وتوافق ميولهم الفكرية. ولا نزاع أيضاً على أن الإصرار على هذا الخطأ لا يغيّر من الواقع شيئاً، ولا يبدّل سنّة الله وخطته، فرغم إصرار علماء اليهود على أبدية شريعة موسى نعلم على وجه اليقين أن عيسى ابن مريم قد جاء من بعده بالحقّ وبدّل شريعته، وعلى الرّغم من تمسّك النّصارى إلى اليوم بأن عيسى هو الأوّل والآخر نعلم على وجه اليقين أن محمد قد جاء بالحقّ وأن القرآن كتاب سماوي حقّ أنزل من بعد التوراة والإنجيل ناسخاً لأحكامهما. فلم يمنع التفسير الخاطئ، ولا الإصرار على التفسير الخاطئ تجديد الدين وفقاً لمشيئة الله.


ولم ينجح المفسرون من الأمة الإسلامية في اتقاء مواضع الزلل التي وقعت فيها الأمم التي سبقتها. فظهر في تفسيرهم وتأويلهم ما يبعد معنى الكلام عن مراد الله، لكي يصل المفسر إلى مساندة رأيه أو يناصر مذهبه. الأمر الذي يقرّ به أكابر هذه الأمة: "فإنه لما حدثت بدعة الفرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب، وحاملو رايات الفرق المختلفة، يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول في فهمه وجهات تتفق وما يريدون، وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة، هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة... ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم، ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح، وعرضها المسوقة له، لكي لا تصلح لمذهب فلان، وبهذا أصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكماً"[۲١].


ففي مواضع كثيرة من القرآن الكريم آيات يمكن أن يُستخلص منها معنيان متضادّان، وقد انقسم المسلمون في موقفهم من هذه الآيات إلى فرق. فذهب البعض إلى أن فهم هذه الآيات ليس من الواجبات لأنها من المتشابهات، وإنما الواجب هو الإيمان بها فقط، وإذا دخلنا في التفاصيل يكون من تأويلنا نحن البشر وليس من كلام الله. بينما قال فريق آخر: "إننا نستمسك بآيات التنزيه ونشرحها ونحللها، ونتعرّض للأيات الأخرى من مثل الاستواء، والوجه واليدين، ونتأولها تأويلاً يتفق والتنزيه... ولا نكتفي بالإيمان الغامض بالآيات المتشابهة، لأن العقل لا يقنع بالغموض"[۲۲].


وكذلك الحال بالنسبة للآيات التي تخبر عن معجزات الأنبياء. فقد قال فريق بإمكان المعجزات "فالمعجزة أمر يظهر بخلاف العادة على أيدي الأنبياء إذا تحدّاهم قومهم... ولرسول الله معجزات منها انشقاق القمر له وتسبيح الحصا في يديه ونحو ذلك"[۲٣]، وذهب فريق آخر إلى إنكار المعجزات لأنّها تناقض قوله تعالى: "فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً"[۲٤]، ورمى كل فريق الآخر بالكفر، ثم انتشر في الدولة العباسية تنكيل وتعذيب المخالفين في الرأي وقتلهم مما حدا بالبعض - ومنهم عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة - إلى القول بجواز وقبول الآراء المتعارضة: "كل ما جاء به القرآن حق، ويدل على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلّت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين"[۲٥].


خلاصة القول أن تفسير القرآن فيما عدا الآيات التي اشتملت على الأحكام، أمر لا جزم فيه ومثار للجدل والاختلاف. وما انتهى إليه المسلمون من إجماع بشأن "خاتم النّبيّين" مبناه العاطفة، لا البحث الدقيق، ولا يختلف في جوهره عن إجماع اليهود بأبدية شريعة موسى وإجماع النصارى بأولية وآخرية عيسى. وقد سبق لكبار المعتزلة الإقرار بأن الإجماع ليس دليلاً على صحّة المُجمَع عليه[۲٦]. فالفيض الإلهي متّصل وإن كان على مراحل وعلى تدريج يناسب استعداد خلقه وطاقتهم "وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ"[۲۷]، لذا قيل أنّ الحقيقة نسبيّة وليست مطلقة مصداقاً لقوله تعالى: "وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَ قَلِيلاً"[۲٨]، أمّا ما عند الله في خزائن علمه لا ينضب لها معين ولا تدخل في نطاق الحصر، وفيضه تعالى على خلقه يظهر مكنون الكتاب المحفوظ من الغيب إلى الشهود تحقيقاً للغاية من الخلق، فكيف يتصوّر أن يكون لكلماته نهاية؟ ألم يصرّح في كتابه العزيز: "قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِكَلمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً"[۲٩]، بل وأكثر من هذا إطلاقاً وتأكيداً قوله تعالى: "وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"[۳۰].


وكلمات الله هي وحيه وخطابه للبشر، وكلّ كلمة منها وحي وكتاب لأجل مسمّى قال تعالى: "إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ"[٣١]، فسيّدنا عيسى عليه السّلام، مع جلال رسالته وعظمة آثاره كان في نظر الحقّ جلّ وعلا كلمة واحدة من كلماته التي لا نفاذ لها، وقوله تعالى: "فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ"[٣۲]، وقد ذكر أبو عبيدة أن المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي. وكذلك كان آدم ونوح وإبراهيم وموسى ومحمّد وسائر الرسل أولي العزم، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه كلّ منهم كلمة تامة مباركة أحيت من على الأرض ونشرت نفحات الله في أرجائها. أيمكن بعد كل هذا التصريح، أن نتصوّر انتهاء الرسالات السماوية والاعتقاد بأنّه لن يظهر من بعد سيدنا محمد رسول آخر؟ أيمكن بعد كلّ هذا البيان أن نتصوّر أنّ كلمات الله قد نفذت والعياذ بالله؟


من المؤكد أن من بين الشبهات التي أدت بالعلماء والمفسرين أن ينحوا إلى هذا الاتجاه السلبي في تفسير القرآن وجود عدد من الآيات التي استعصي عليهم فهمها فحملوها على ظاهر اللفظ، ولو كان ظاهر اللفظ كافياً لإظهار مراد الله لما كان هناك لزوم لذكر اختصاص الراسخين في العلم بمعنى المتشابهات. فاستنتج أكثرهم انتهاء كلمات الله وتوقف رسالاته على فهم محدود لوصف القرآن الكريم لسيدنا محمد في أحد مواضعه بأنه "خاتم النبيين". ولم يحاولوا تحليل هذا الوصف والمعاني المختلفة التي يحملها بين طياته.



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة