بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


رسالة حضرة بهاء الله

في أوائل القرن التّاسع عشر قوي الاقتناع في عدد من المذاهب الدينية بقرب تحقّق نبوءات آخر الزّمان، المؤكّدة لرجوع المسيح، أو ظهور الإمام الغائب، ومجيء المهدي المنتظر، ولكن لم يشمل الاقتناع جميع الناس حيث أنكر البعض إحتمال مجيء مبعوث إلهي آخر. وفي وسط هذه التّكهّنات، ظهرت فرقة الشّيخيّة الّتي أسّسها الشّيخ أحمد بن زين الدّين بن ابراهيم الأحسائيّ، المولود في شبه الجزيرة العربيّة عام ١٧٤٣.


واهتمّ الشيخ الأحسائي بإصلاح معتقدات الشّيعة: فقال بأن الإمام الموعود لن يخرج من الخفاء أو ينزل على السحاب، وإنما سيولد وفقاً لسنة الله في صورة شخص من أشخاص هذا العالم، وأن المعاد يكون بالجوهر لا بالعنصر الترابيّ، فالجسد يبلى بعد الموت، أما الحشر والنّشر فيكون بالرّوح وهو من الجواهر التي لا يعتريها الفناء. وتوفّى الشّيخ أحمد سنة ١٨٢٦ ودفن بالبقيع، بالمدينة المنوّرة [١].


وتابع أعمال الأحسائي من بعده تلميذه الشّيخ كاظم الرّشتي، وواصل رؤى شيخه في ظهور "الموعود"، وعدّد لتلاميذه أوصافه وعلاماته، وأعلن في أواخر أيّامه أنّ تعاليم الشّيخيّة قد استوفت غرضها في التّهيئة لمجيء الموعود، وأوصى تلاميذه بالتّشتّت في الأرض بحثا عنه. وما أن توفّاه الله حتى هاموا في أرجاء إيران بحثا عن صاحب الزمان[۲].


في غضون عام من انتشارهم بحثاً عن "القائم"، التقى أحد أئمّتهم، وهو الملاّ حسين بشروئي، بالسيّد علي محمد الشيرازي، أحد أشراف مدينة شيراز، الّّذي دعاه إلى منزله. وسرعان ما انبهر الملاّ حسين بشخص مضيفه، إذ وجده فذّاً في رقّته ووقار شخصيّته، فريداً في وداعته وصفاء سريرته، جذّاباً في حديثه، قوياً في منطقه، يأسر مستمعيه بسحر بيانه. وفي الهزيع الأوّل من تلك اللّيلة الخامسة من جمادى الأولى ١٢٦۰ﻫ الموافقة لليلة ٢٢ مايو (آيار) ١٨٤٤م كشف السّيد علي محمد لضيفه النّقاب عن حقيقة كينونته، وصرّح له بأنه هو "الباب" - وهو لقب يفصح عن أنّه مقدّمة لمجيء "من يظهره الله"، وهو "الظهور" ذاته الّذي بشّر بقرب مجيئه الشّيخان أحمد الأحسائي وكاظم الرّشتي، وجاء ذكره في كتب الدّيانات السّابقة بأسماء وأوصاف متفارقة في ظاهرها، متوافقة في جوهرها وحقيقتها.


استولت الحيرة في أول الأمر على قلب الملاّ حسين لشدة المفاجأة، ولكن سرعان ما استجمع ثقته بوصفه أخصّ تلامذة السّيد كاظم، وأكثرهم إلماماّ بأحاديثه عن الموعود وأوصافه وعلاماته، وباعتباره الباحث الّذي أعدّ نفسه للتّعرف على "الموعود"، فطلب من محدثه الدّليل تلو الدّليل، حتى نزلت في حضوره سورة "قيّوم الأسماء"، فرأى الملاّ حسين في الهيمنة، والاقتدار، والإلهام، المتجلّي أمام ناظريه، اليقين القاطع، والبرهان السّاطع على نزول الوحي الإلهي، فأذعن إلى نداء الله؛ وكان أوّل من صدّق بدعوة حضرة الباب الّذي لُقّب أيضا ﺒِ"النّقطة الأولى" و"حضرة الأعلى".


وتوالى بعد ذلك تلامذة الشيخين أحمد الأحسائي وكاظم الرشتي في التعرف على شخص الموعود، واعتناق دعوته، ولمّا بلغ عدد المصدّقين بدعوة حضرة الباب الجديدة ثمانية عشر، اجتمع بهم حضرة الباب، وأمرهم بالانتشار في الأرض لإبلاغ الناس بتحقق الوعد الإلهي، مذكّراً إيّاهم بأنّهم حملة لواء الله في هذا اليوم العظيم. وأمرهم أن يتحلّوا بصفات المقدسين عن الهوى، فيكونوا في أقوالهم وأعمالهم مصداقاً لتقوى الله، وإسلام الوجه إليه، والاعتصام بأوامره. وأن يشهد حِلّهم وترحالهم على نبل مقصدهم، وكمال فضائلهم، وصدق إيمانهم، وخلوص عبوديّتهم.


وخرج حضرة الأعلى بعد ذلك حاجاً إلى بيت الله الحرام، وبعد أن أعلن دعوته إلى شريف مكّة المكرّمة، عاد إلى مدينته، شيراز، ليواجه معارضة علمائها المستكبرين، وشرّ حاكمها العاتي. بعد أن أتاح غياب حضرته في الأراضي الحجازية الفرصة للمغرضين لينشروا الأكاذيب عن دعوته. فعمل بعد عودته من الحج على تهدئة خواطر النّاس، وعندما اجتمع علماء المدينة ليوجهوا إليه الكثير من الاتّهامات الكاذبة، رأى حضرته الاكتفاء بإنكار الأباطيل المنسوبة إليه، دون الدّخول في شرح تعاليم بعثته، فأشاع مناوئوه أنّه رجع عن دعوته، بينما يتضح للمتفكر في كلامه أنّه قصد التبرّأ من مفترياتهم، دون أن يتطرّق إلى إنكار الدعوة التي أمره الله بالنداء بها بين الناس.


إزاء الاهتمام المتزايد في الداخل والخارج بدعوة حضرة الباب أرسل شاه إيران أوثق علمائه وأقدرهم لتحري حقيقة الأمر، فحضر السّيد يحيى الدّارابي لمباحثة حضرة الأعلى، وانتهى - بعد البحث والمناقشة لعدة أيام - بالتّصديق بالدعوة الجديدة، وانخرط في زمرة أتباع حضرة الباب، فاتهمه عدد من العلماء بالجنون، مع أنّهم كانوا يعتبرونه حتى الأمس أرسخهم علماً، ويعترفون بأنه أقدرهم على تمحيص دعوة حضرة الباب.


وحمل ذلك الملاّ محمد علي الزنجاني- وهو من كبار مجتهدي الشّيعة في زمانه - أن يرسل أحد خاصته لبحث حقيقة أمر حضرة الباب، وما أن عاد رسوله بالنبأ اليقين حتى أنهى الملاّ محمد مجلس تدريسه مصرحاً بكلمته الشّهيرة: "طلب العلم بعد الوصول إلى المعلوم مذموم".


وقرّر النّفعيون من علماء شيراز ضرورة التّخلّص من الداعي الجديد لوقف انتشار دعوته، ولكن في ذات اللّيلة الّتي قُبض فيها عليه، ظهر وباء الكوليرا بين أهل المدينة، وشاع بين الناس أنه انتقام إلهي على إهانة الباب والقبض عليه، فأمر حاكم مدينة شيراز بإطلاق سراح حضرته، راجياً منه مغادرة المدينة. فقصد حضرة الأعلى مدينة إصفهان، ففزع علماؤها وأفتوا على الفور بكفره. ولما دعاهم حاكمها لمباحثة حضرة الباب في أمره، رفضوا ذلك متعلّلين بأن المناظرة تجوز فيما أشكل، أمّا خروج حضرة الباب على الشّرع فواضح كالشّمس في رائعة النّهار. وأوصلوا شكواهم إلى ساحة الملك، فصدر الأمر بإقصاء حضرة الباب إلى قلعة ماه كوه ومنها بعد فترة وجيزة إلى قلعة چهريق بإقليم آذربايجان.


وكان اختيار الوزير الشرير أقاسي قلعة ماه كوه ثم قلعة چهريق من بعدها مكانا لسجن حضرة الباب، وكلتاهما بأرض نائية في أذربايجان، أملاً في عدم اهتمام سكّان تلك الجهات من الأكراد السُّنة بهذه الدّعوة المنتشرة بين الشيعة، ولكن ما أن حضر إليها حضرة الباب حتى انبهر أهلها بدماثة أخلاقه، ورقّة طباعه، وقوّة إيمانه، وخوارق أعماله؛ فالتفّوا حوله، ورحّبوا بكلّّ من قصد لزيارته، وأضحى سجنه مكانا يؤمّه الحجّاج، بعيدا عن مكائد علماء الشّيعة؛ فزادت البابيّة انتشارا، وزاد بذلك همّ العلماء وزاد تباعاً الضغط على الحكومة للتخلص من حضرته.


خلف في هذه الأثناء الأمير ناصر الدين شاه أباه محمّد شاه على العرش ولمّا يتجاوز السّادسة عشرة من عمره، وتولّى ميرزا تقي خان الوزارة طليق اليد في أمور الدولة، ومتصوّرا أن إرهاب البابيّين كفيل بوقف انتشار دعوتهم، وكسبه تأييد العلماء لسياسته ومآزرتهم في دعم سلطته. فأقحم السّلطة المدنيّة مع السّلطة الدّينية في محاربة البابيّة. ولم تحرّك سلطات الدولة ساكناً عندما أغار الغوغاء - بتحريض من العلماء - على البابيّين؛ فاغتصبوا أموالهم، وأراقوا دماءهم، وانتهكوا حرماتهم، ونكّلوا بذويهم، وحيثما حاول المُعْتَدَى عليهم دفع الشّرّ عن أنفسهم، أُتّهموا بإثارة الفتن والاضطرابات.


جمع حضرة الباب آنذاك أوراقه وأرسلها مع قلمه وخاتمه إلى حضرة بهاء الله في طهران إشارة إلى وشك انتهاء مهمّته. وبالفعل نُقل بعد ذلك بقليل، مع أربعة من أتباعه إلى تبريز، حيث أعدّت العدّة لقتله. وفي اليوم التّالي لوصوله، أصدر علماء تبريز فتواهم بإعدامه بدون مواجهته، وكُلّف الضابط سام خان رئيس فرقة الجنود الأرمن، بتنفيذ الإعدام: فأوقف حضرة الباب ورفيق له في مواجهة ثلّة من الجنود اصطفّوا في ثلاث صفوف على مرأى ومسمع الجموع الغفيرة التي دعيت لمشاهدة هذه المذبحة لتشيع فيما بعد أخبارها بين الجماهير. ثم صدر الأمر بإطلاق البارود؛ وعلا دخّان كثيف تعذرت معه الرّؤية. وبعد انقشاع سحب الدّخان، انصعق المشاهدون لرؤية رفيق حضرة الباب قائما بمفرده، وقد تمزّقت الحبال الّتي قُيّد بها، دون أن يصاب هو بأذى، ولا أثر للباب نفسه.


كان حضرة الباب سالماً وجالساً داخل الغرفة الّتي اقتيد منها منذ لحظات، يتابع في هدوء إبلاغ آخر وصاياه لأتباعه. وبعد انتهائه من الحديث، قال للحارس المشدوه بباب الغرفة أنّ وقت شهادته قد حان، ولكن رفض الحارس اصطحابه مرة أخرى، وكذلك رفض رئيسه سام خان بعد هذه الحادثة أن يكون له يد في قتل حضرة الباب، وأمر سام خان جنوده بالانسحاب من المكان.


لم يكن بدٌ أمام العلماء وقادة الجيش من إتمام المؤامرة على حياة حضرة الباب خوفا من زيادة انتشار الدّين الجديد إن ذاعت تفاصيل هذا الحادث. فأُُحضرت على الفور فرقة أخرى من الجنود، واقتيد حضرة الباب إلى المكان ذاته، وأطلق الرّصاص؛ فتحقّقت بشهادته نبوءة خطّها يراعه في مستهلّ دعوته:


"يا سيّدي الأكبر * ما أنا بشيء إلا وقد أقامتني قدرتك على الأمر * ما اتّكلّت في شيء إلاّ عليك * وما اعتصمت في أمر إلاّ إليك * يا بقيّة الله قد فديت بكلّي لك ورضيت السبّ في سبيلك وما تمنّيت إلاّ القتل في محبّتك * وكفى بالله العليّ معتصماً قديماً وكفى بالله شاهداً ووكيل"[٣].


أثّرت واقعة قتل حضرة الباب المذهلة على القوى العقليّة لأحد الّذين قاموا على خدمته وتعلّقوا بشخصه إلى حدّ بعيد، فتصوّر هذا المخبول أنّ واجب الوفاء لسيده يفرض عليه الانتقام له، وعزم على قتل الشّاه. ولكنه - وهذا من دلائل ضعف عقله - استخدم أداة لا تميت؛ فأصاب الشّاه بجروح طفيفة. ولكن وجد أعداء البابيّة في هذا الاعتداء فرصة للفتك بالبابيّين من جديد ونهب ما تبقى من أموالهم، فاتُّهم البابيّيون جميعا بالتآمر على حياة الشّاه؛ واقتيدوا أفواجا إلى مقرّ الشّهادة كما امتلأت السّجون بمن بقي منهم على قيد الحياة.


قضت موجة الفتك والتنكيل والسّلب والنهب على آلاف الأبرياء، ولكن مضت دعوتهم قدماً وامتدّ نفوذها إلى خارج إيران وبلغت شرق الأرض وغربها، وتُرجمت كتبها إلى لغات مختلفة، وأضحى مرقد حضرة الباب محجّا تؤمّه الملايين، بينما خوت قصور الملوك والوزراء الّذين حاربوه، واندكّت عروشهم دكاً، وأضحت قبورهم هشيماً تذروه الرّياح.


أما الدين البهائي فهو النور الإلهي الّذي هيّأت له دعوة حضرة الباب. وأحداثهما التاريخية مرتبطة، يتعذّر تحديد خطّ فاصل بينهما، إلاّ أّنّ حضرة بهاء الله أوضح أنّ بعثته بدأت أيّام سجنه في سياه چال بطهران. وحضرة بهاء الله هو اللّقب الّذي عُرف به ميرزا حسين علي النّوري، وهو سليل مجد وشرف، إذ كان أبوه ميرزا عبّاس المشهور بميرزا بزرگ، أحد النّبلاء المقرّبين إلى بلاط الملك فتح علي شاه، وحاكما على منطقة بروجرد ولُرستان.


واتّصف حضرة بهاء الله منذ طفولته بحميد الخلال، وجميل الخصال، وتميّز بحدّة الذّكاء، ورجاحة العقل، والشّجاعة والإقدام، وأبدى منذ بكرة صباه كفاءة ومهارة فائقتين في حلّ أعقد المشاكلّ، وأظهر معرفة وعلماً لَدُنِّيّاً أدهشا مَن حوله من كبار رجال الدّولة. ورغم كثرة ما عُرض عليه من المناصب الرفيعة في الدّولة، أبى حضرته قبولها وانصرف كلّّية إلى أعمال البرّ، ورعاية المساكين، منفقا ماله الخاص على الفقراء والمعوزين.


وبعد محاولة الاعتداء على حياة الشّاه، قضى حضرة بهاء الله أربعة شهور سجينا في طهران، بوصفه أحد أقطاب البابية، وبات ينتظر دوره للإعدام بدون أي تحقيق أو محاكمة. فتصدى بعض أصدقاء عائلته الكريمة للدفاع عنه ونجحوا في إقناع الملك بإجراء التّحقيق في حقيقة التهم الموجهة إلى هؤلاء الأبرياء. وفعلاً ثبتت براءة حضرة بهاء الله من التورط في الاعتداء على الشاه، فأطلق سراحه، ولكن - تفادياً لزيادة انتشار البابية - أمرت السّلطات الإيرانية بإبعاده من أراضيها، وصادرت أمواله، فقصد إلى العراق.


وبعد إقامة قصيرة في بغداد قرّر حضرته الاعتزال في جبال السّليمانيّة حيث انقطع متعبّدا في خلوة دامت عامين، لم يكن أحد يعلم خلالها مكانه. وعندما عُرف مكانه انهالت عليه التوسّلات للعودة لجمع شمل البابيين، وتنظيم صفوفهم من جديد.


اهتمّ حضرة بهاء الله أثناء مقامه في بغداد بشرح وبيان تعاليم حضرة الباب على نحو لا يمكن أن يكون إلاّّ إلهاما إلهيّا. ومن بين مآثر هذه الفترة رسالتان على جانب عظيم من الأهميّة، وهما: الكلّمات المكنونة، وكتاب الإيقان. تتعدى الرّسالة الأولى حدود جمال التّصوير، وبلاغة اللّفظ، ورقّة التّعبير، إلى عمق المعنى، وسموّ الفكرة، مع شدّة الاختصار وسحر البيان، وهي موجز للفضائل والإلهيّات الّتي جاءت بها الأديان سابقاً، أو كما قدّم لها حضرة بهاء الله نفسه:


"هذا ما نُزّل من جبروت العِزّة بلسان القُدرة والقوّة على النبيّين من قَبل، وإنّا أخذنا جواهره وأقمصناه قميص الاختصار فضلا على الأحبار، ليوفوا بعهد الله ويؤدّوا أماناته في أنفسهم، وليكونّن بجوهر التُّقى في أرض الرّوح من الفائزين."


وفي الرسّالة الثّانية يفيض بيانه الأحلى بتفسير آيات الكتب المقدّسة السّابقة على نحو يُبرز وحدة معانيها ومقاصدها، ويُلفت الأنظار إلى أبديّة الأديان، وعدم محدوديّة رسالتها الروحانية رغم انحصار أحكامها في حيّز زمانيّ. وخلت الرّسالتان من أيّ إشارة إلى أمره الجديد، ولكن فتح كتاب الإيقان آفاقا فسيحة أمام الفكر الدينيّ لكلّّ المهتمّين بالرّوحانيات، مهيّئا الأذهان لإعلان دعوته المباركة.


بقي حضرة بهاء الله في بغداد قرابة عشر سنوات، علت أثناءها شكوى البلاط الفارسيّ من ازدياد نفوذه في تلك المنطقة التي يحجّ إليها الشّيعة من أهل إيران، وزادت مخاوف البلاط الإيرانيّ من ازدياد نفوذها بعد زيارة عدد من أفراد هذا البلاط الملكي نفسه لحضرة بهاء الله في منزله المتواضع ببغداد. وأبلغت الحكومة الإيرانية مخاوفها وشكواها إلى عاصمة الدولة العثمانية التي كانت تتبعها العراق آنذاك، فأمر السّلطان عبد العزيز بحضور حضرة بهاء الله إلى إستنبول. وبينما كان يتأهّب ركبه للرّحيل عن بغداد في ربيع عام ١٨٦۳، أعلن حضرة بهاء الله لأصحابه بأنّه الموعود الّذي بشّر بظهوره حضرة الباب، والّذي بظهوره تتحقق نبوءات ووعود الأديان السّابقة.


وبعد وصول حضرة بهاء الله وصحبه إلى مدينة إستنبول في منتصف أغسطس (آب) ١٨٦۳، بعد رحلة دامت ثلاثة شهور ونصف على ظهور الدّواب، خلال جبال وعرة، نما إلى علمهم قرار إبعادهم إلى أدرنة، الّتي وصلوها يوم ٢١ ديسمبر (كانون أوّل) من نفس السّنة. وهناك قام حضرة بهاء الله بعد استقراره في هذه المدينة، وطيلة السّنوات الخمس التي دام بقاؤه فيها، بتفصيل أصول دعوته، وشرح النبوءات والوعود الإلهيّة الخاصّة بمجيئه، وتهذيب وتقويم أخلاق أصحابه وأتباعه، ومنذراً بانتشار الفساد وازدياد الخلافات بين أمم العالم نتيجة لانصراف الناس عن التعاليم الإلهية، والاستهانة بشأن الدين، والإعراض عن النداء الإلهيّ الجديد.


ووضع حضرة بهاء الله في تلك الأيام هيكل نظام عالمي جديد كفيل بحفظ الأمن في العالم، وإرساء السّلام على قواعد العدل والتّآزر، فأمر بالحد من التسلح، ونصح بفضّ المنازعات الدولية بالطرق السلمية. وضمّن المبادئ التي يقوم عليها نظامه العالمي رسائله إلى من بيدهم زمام الحكم في العالم من ملوك ورؤساء وسلاطين، داعياً إياهم ليعيدوا تنظيم المجتمع الإنسانيّ على الأسس الجديدة التي وضعها، منذراً إياهم - جمعاً ووتراً - مغبّة رفض هذه الدعوة الإلهية، ومؤكداً لهم أنه لا يطمع في جاه أو شهرة، ولا يسعى إلى كسب دنيويّ، وإنما ينادي بأمر إلهي لا يملك حياله إلاّ الطاعة. وعدّد لكل منهم ما ينتظره إن هو ألقى بكلمة الله عن ورائه واستصغر الحق. وقد حاق فعلاً بكلّّ منهم ما أنذره من مذلة وخسران مادّي ومعنوّي نتيجة استكبارهم وعدم مبالاتهم بهذه الرّسالة السّماويّة رغم ما كانوا عليه من عزّ مبين. وبعد إقامة دامت خمس سنوات في أدرنة صدر فرمان السلطان عبد العزيز بنفي حضرة بهاء الله وآله وصحبه إلى مدينة عكّا، المعتبرة آنذاك مآل المجرمين العتاة، والمغضوب عليهم في الدولة العليّة.


أعاد سجن حضرة بهاء الله في عكّا إلى الأذهان الأحاديث النبوية الشريفة المرويّة عن منزلتها والتي لم يعرف السابقون مرراً لها في تاريخ تلك البقعة الخربة من العالم. ومع ذلك لما ورد حضرة بهاء الله إليها يوم ۳١ أغسطس ١٨٦٨م لم يخرج أهلها مرحّبين بمن أفاض على مدينتهم قدسيتها، ولكن اجتمعوا ليسخروا بمن وصفه فرمان السلطان بمدّعي الألوهيّة، الذي حكم عليه وأفراد عائلته - بدون محاكمة - بالسّجن مدى الحياة. وزاد الفرمان تحذيره لأهالي عكا وما حولها من مغبّة الاختلاط بهؤلاء الأشرار أو معاشرتهم.


واقع الأمر أن العزلة الّتي فُرضت على حضرة بهاء الله في سجن عكّا كانت دعامة لهذا الظّهور المبارك، فبدأت فترة غنيّة بتنزيل الآيات والألواح، وواصل حضرته من السّجن إبلاغ دعوته إلى ملوك ورؤساء العالم، وفصّل معالم النّظم العالميّ الّذي أبدعه، وأنزل في كتاب الأقدس أحكام الشريعة الجديدة، وأجاب على أسئلة مستفسريه، وحرّر كتاب عهده وميثاقه، وحدّد الهيئات والقيادات المستقبلة لإدارة أمر دينه، وبين وظيفة وسلطة كلّّ منها، وعين ابنه البكر ليتولّى إدارة شئون أمره وتفسير تعاليمه من بعده. وبقي سجيناً في مَرْجِ عكّا حتى صعدت روحه إلى الرّفيق الأعلى في فجر يوم ٢٩ مايو (أيار) سنة ١٨٩٢ميلادية.



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة