بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


تأويل المتشابهات

يذكر القرآن الكريم في سورة الأعراف أمثلة عديدة لتكذيب الناس لرسل الله ورفضهم الأديان الجديدة سواء كان دافعهم الجهل أو سوء القصد. فذكرت الرّد الذي تلقاه سيدنا نوح لما دعا قومه إلى عبادة الله: "قَالَ المَلأ مِنْ قَومِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ"[١]، ثم ذكرت جواب قوم عاد عندما جاءهم سيدنا هود برسالة جديدة: "إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنَّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا"[۲]، وكذلك جابه أهل ثمود الدين الجديد الذي جاء به سيدنا صالح: "إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُون"[٣]، وقابل قوم لوط دعوته بجواب مشابه وقاموا على أذى مَن اتبعه: "أَخْرِجُوهُم مِنْ قَرْيَتِكُم إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"[٤] وعلى النمط نفسه كان رفض أهل مدين لرسالة سيدنا شعيب: "لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَ"[٥]، وتقص سورة الأعراف رفض فرعون لرسالة سيدنا موسى وما كان بينه وبين أهله.


وتكذيب أهل كل زمان لرسولهم أمر معروف لكل من درس تاريخ الأديان، ولا ضرورة لإطالة الحديث فيه، وإنما يهمنا أن نستخلص من الأمثلة الواردة في سورة الأعراف أن رفض الناس للرسالات الجديدة ليس بالضرورة وليد العناد أو رغبة في الكفر، بل أكثره ناتجاً عن التمسك بالراسخ في أذهان المكذبين بأن دين أبائهم وما شبّوا عليه وألفوه هو الحق. فالأعذار التي يتخذها المنكرون أساساً للإعراض والإنكار كما يوجزها الذكر الحكيم: "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَ"[٦]. فالاعتراض على رسل الله قد يكون وليد حسن النية مع الجهل والاستهانة بالبحث والتحقيق. وتؤكد سورة البقرة أيضاً أن أساس الإعراض عن الأديان الجديدة، وتكذيب الناس لمن بعثهم الله بالحق هو نتيجة طبيعية للتمسك بالتقليد الأعمى، والتشبث بالآراء والأفكار الموروثة عن السلف بدون بحث في مبادئ وغايات هذه الدعوات الإلهية الجديدة، ودراسة الحجج والأدلة التي بٌنيت عليها، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَ"[۷].


ويرتب القرآن الكريم على هذه السوابق المتواترة حكماً عاماً يصدق على جميع الأديان الجديدة حيث جاء في سورة البقرة: "أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ"[٨]، أو إن شيءت يمكن اعتبار هذه السوابق التي ورد ذكرها في سورة الأعراف المصداق على سنّة إلهية تجعل من مجيء كل دين فتنة واختبار لصدق العباد. فتكذيب الرسل أضحى ظاهرة منتظمة كما يؤكده قوله تعالى: "وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ"[٩]، وسبب هذا الإعراض هو ما يتوارثه الناس من تفسير وتأويل قال به السابقون الذين وقعوا في المحذور وأضلوا من بعدهم خلقاً كثيراً.


والبحث في الأسباب التي تؤدي إلى وقوع المفسرين في هذه الأخطاء الجسيمة تنتهي بنا إلى أن فهمهم لمكنون الآيات إذا كانت من المتشابه يقصر عن إدراك ما يخفيه الغيب من معانيها. ولبيان هذه الحقيقة يلزمنا الرجوع إلى بعض الكتب المقدسة القديمة، لأن القرآن الكريم لا ينفرد وحده بوجود الآيات المتشابهات. فإننا نجد أمثلة كثيرة للمتشابه في الكتب السماوية السابقة على القرآن، ويسهل علينا الآن فهم تأويل القرآن الكريم لها وبيان الرسول الأمين لمعانيها.


ولنأخذ مثلاً قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ عَيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"[١۰] فإن من يطالع الكتاب المقدس باللغات المختلفة التي تُرجم إليها لا يجد فيها بشارة بمجيء رسالة محمد من بعد عيسى على النحو الصريح الواضح الذي ذكره القرآن. فقد تكلم المسيح في بشاراته عن مجيء "المعزّي"، ومجيء "ابن الإنسان"، ومجيء "الروح" ولم يرد فيه ذكر للفظ "أحمد". ومع افتراض أن نص الكتاب المقدس - الذي تُرجم من لغة إلى أخرى أكثر من مرّة - قد تأثّر بعض الشيء من تعدد هذه الترجمات فإن سياق الكلام ومضمونه لم يتغيرا بفضل الحرص الذي التزم به المترجمون، فجاءت معانيه متوافقة على كثرة اللغات التي ترجم إليها.


وخلاصة القول أنه رغم خلوّ الكتاب المقدس من لفظ "أحمد" فقد اكتفى القرآن بوجود ما يدلّ على معناه لإتمام الحجة على أهل الكتاب، وهي حجة أقوى في الواقع من وجود اللفظ نفسه لأنها حجة على أهل الكتاب أياً كانت لغتهم دون أن تقتصر حجيتها على الأعراب فقط. والمهم أن كلام السيد المسيح لم يبلغ هذا الوضوح إلاّ بعد أن أبان القرآن تأويله، أمّا بالنسبة للسابقين على الإسلام فهو من المتشابه الذي لا يُفهم معناه لا من لفظه ولا من سياق الحديث ولا يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم. ولو كانت البشارة لمجيء الرسول القادم صريحة لما كان فيها امتحان لصدق إيمان العباد كما هو الحال مع مجيء كل مبعوث إلهي.


ولعل التمييز بين التفسير والتأويل يعين في فهم سرّ المتشابهات. فرغم أن لفظ التأويل كثيراً ما يستعمل بمعنى التفسير، ولكن العلماء ميّزوا بينهما فعرّفوا التّفسير بأنه الإيضاح والبيان، أمّا التأويل فيشمل أيضاً ما يؤول إليه الأمر مستقبلاً. وأغلب الجاري على ألسن الفقهاء أن تُؤوّل الآيات المتشابهات وأن يُفسّر غيرها، مما يوحي أن للتأويل أغوارا أبعد عمقاً من التفسير وهو أخص في الآيات التي جاءت على وجه من وجوه المجاز فكان لها مدلول غير ظاهر لفظها كما هو الحال مثلاً في الأمثال والكنايات والاستعارات.


قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَاب"[١١].


والواضح من هذه الآية المباركة أنّ آيات القرآن الكريم تنقسم إلى آيات محكمات وآيات متشابـهات. والمسلّم به أنّ الآيات المحكمات هنّ أمّ الكتاب ومبانيـها واضحة الدّلالة بذاتها أو بسياقها ولا التباس فيها، وهنّ المبيّنات لشريعة الله، والمفصّلات للشّعائر والعبادات والأحكام من صلاة وصوم وزكاة وحـجّ وزواج وطـلاق ومواريث وقصاصة إلى آخره. وتفسير هذه الآيات وشرحها هما من مهام مَن كان على علم وقدرة من أهل الفقه والمعرفة.


ولكن هناك صعوبة في تحديد مهام الفقهاء والعلماء فيما يتعلق بتأويل ما عداها من آيات الكتب السّماوية: فقد عرّف البعض التأويل على أنه: "إرجاع الكلام وردّه إلى الغاية المرجوّة منه". وجاء في "لسان العرب" عن ابن الأثير: "والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما تُرك ظاهر اللفظ". ومعنى ذلك أن المؤوِّل يستبدل الكلام الذي استغلق فهمه بكلام واضح يرجِّح أنّه المقصود من المتشابه. فهذا التعريف يتيح المجال لاختلاف المعنى باختلاف المؤوّلين ويبعد عن الموضوعية. وقيل أيضاً أن المحكم ما كان معناه جليّ واضح ظاهر لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً لا يقع فيه اشتباه، والمتشابه فيه خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم. وهناك قول مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال: "المحكم ما علم العلماء تأويله، والمتشابه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل". وقد وصفها بعض السّابقين بقولهم: "ليس لهنّ تصريف وتحريف وتأويل"[١۲]، فقد "يدل لفظها على شيء والعقل على خلافه"، و"استأثر الله بعلمها".


وعلى هذا يمكن القول أن المتشابهات - بصفة عامة - آيات تختزن أموراً خاصّة وأحداثاً هامّة تقع مستقبلاً في مواقيت حدّدها الله تعالى في سابق علمه، وليس للأنام وسيلة لمعرفتها ما دامت في طيّ الغيب، ومحاولاتهم في هذا المجال كما صرحت الآية ضرب من الإرجاف، وحدس بما لم يحيطوا به علماً. أمّا تأويلها على الوجه الصحيح - وفقاً لصريح نصّ الآية - وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ[١٣]. وما دام أن الله قد استأثر بعلم تأويل هذه الآيات واختص بهذا العلم من بعده سبحانه وتعالى الراسخين في العلم، فلا بد أن يكون هذا التأويل سراً يتعذّر البلوغ إليه إلاّ لمن شاء الله، فالرسوخ في العلم معناه - في هذه الحالة - امتناع الشبهة وهو أمر يقارب العصمة وليس من سجايا البشر المعتادين، كما أن العلم المقصود في هذه الآية ليس العلم المكتسب الذي يتعلمه الناس، وإنما العلم بما يؤول إليه الخبر الوارد في نص الآية، أو إن شيءت العلم بمراد الله من كلامه. فالراسخون في العلم الذين ورد ذكرهم في الآية هم أناس لا تزيغ قلوبهم ولا ينطقون عن الهوى بل يوحي الله إليهم مراده، وهم المصطفون من رسله وأنبيائه ومن كان في منزلتهم.


فتأويل الآيات المتشابهات يتم إذاً بطريقين أصيلين: الأول أن يكشف الله عن مراده بجنود غيبه التي تسيطر على القوى المسيّرة لمجريات الأمور في عالم الشهود، وما يقع من أحداث فيه، بحيث تأتى وفقاً لما أنبأ به في آياته، ولو أنها ظاهراً وقعت استجابة لأسباب منطقية أخرى، كما نجد في قوله تعالى مخاطباً الرسول: "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِع قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"[١٤]. فمع أن الله وعد أن يجمع القرآن فإن جمعه كان من عمل المسلمين، ولكنهم سُخروا لإنجاز ما وعد به الرحمن. والطريق الثاني أن يوحي الله بمراده إلى من يصطفيهم من عباده المقربين ليبينوا لسائر العباد مراده. وخلاصة القول أن الآيات المتشابهات قد تنزلت لتكون هداية للناس وبشرى لهم، فلا يمكن أن يبقى مدلولها سراً أبدياً، وإنما يبين معناها ويتضح تأويلها في اليوم الموقوت.


ومع تصريح الآية المباركة وتحذيرها دأب الشّراح والمفسّرون على تأويل الآيات المتشابهات بصرف الألفاظ عن مدلولها إلى خلافها، ولا شك أنّهم بذلوا قصارى جهدهم في ضبط المعاني التي أستخرجوها من هذه الآيات، ولكن عندما تُستعمل المهارة حيث لا ينبغي، يقع المحذور وتترتّب عليه كلّ الآثار التّي نبّهت إليها الآية المباركة.


وكانت النتيجة أن كثرت وجهات نظر المفسّرين والمعاني التي استخرجوها من هذه الآيات مما يجزم أن تأويلهم جاء على سبيل الظّن والتخمين، ولو كان قولهم حقاً لما تفرقت بهم السبل، وليس ذلك من الرسوخ في العلم الذي يؤهل المرء لتأويل المتشابهات. ومن الحق أن أحداً منهم لم يدّع بأنّ تأويله هو مراد الله تعالى، بل دأبوا في ختام تفاسيرهم على استعمال العبارة التّقليديّة: "والله ورسوله أعلم"، وهو اعتراف منهم بعدم بلوغهم اليقين في تأويلهم، إنما اليقين من مراد الله - كما سبق القول - لا يكون إلا لمن كشف الله له عن مراده، وهذا اليقين لا يتأتى إلاّ عن طريق رسله المكلّفين بإبلاغ مراده تعالى إلى الناس. فإذا كان الأمر كذلك ألا يحقّ للمسلم أن يتساءل متى يأتي تأويل الله والقول الفصل بالأمر اليقين؟


ولنرجع إلى التّاريخ لعلّنا نجد فيه ما يصل بنا إلى فهم سليم للآية المباركة. وتفصيل الوقائع التّاريخية لجمع القرآن كما رواها الدكتور طه حسين بدقة الكاتب الذي جمع بين المعرفة الأزهرية للتراث الإسلامي وأساليب البحث والتدقيق المتقنة فقال:


"لما قُتل أصحاب رسول الله باليمامة دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله باليمامة تهافتوا تهافت الفراش على النّار، وإنّي أخشى ألا يشهدوا موطناً إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن فيضيع القرآن ويُنسى، فلو جمعتَه وكتبتَه. فنفر منها أبو بكر وقال: "فعل ما لم يفعل رسول الله. فتراجعا في ذلك. ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت. قال زيد: فدخلتُ عليه وعمر مُحزئل، فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل. قال: فاقتصّ أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله. إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ قال: فذهبنا ننظر، فقلنا لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء. قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة زوج النّبي.


"ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها في فرج إرمينيّة، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفّان فقال: يا أمير المؤمنين، أدْرِك النّاس. فقال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج إرمينيّة، فحضرها أهل العراق وأهل الشّام، فإذا أهل الشّام يقرأون بقراءة أبيّ بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق فيكفّرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشّام فتكفّرهم أهل الشّام؛ قال زيد: فأمرني عثمان بن عفّان أن أكتب له مصحفاً وقال: إنّي مدخل معك لبيباً فصيحاً، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ. فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص."[١٥]


هذه حقائق متّفق عليها، ويتّضح منها أنّ عمليّة جمع القرآن الكريم إنّما تمت بعد انتقال النبيّ إلى الدّار الآخرة. و"بَيَانَهُ" حسب تقرير الآية المباركة - عمل يتمّ بعد "جَمْعَهُ وَقُرءَانَهُ" أي في زمن غير زمن الرّسول وخلفائه الراشدين. وهذا مفهوم: "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" لأن "ثُمَّ" تفيد المستقبل مع التّراخي. وقوله تعالى "لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" ولو أنه خطاب موجّه إلى الرسول إلاّ أنه ينطبق أيضاً على أمته فيوصيها بالإعراض عن التّعجيل في بيانه قبل اليوم الموعود، لأن الرّسول الكريم الذي "علّمه شديد القوى" كان يعلم - بدون شكّ - ما في خزائن كتاب الله من معان وإشارات، ولم يكن في حاجة إلى مزيد بيان.


أعود إلى الآيتين المتقدّمتين اللّتين صرّح الله فيهما بأنّ تأويل المتشابهات وبيان معانيها من شأنه تعالى. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو كيف يأتي الله بالتأويل؟ هل ينزله الله من السماء كتاباً مكتوباً، أم يقذفه في قلوب أفراد الأمّة فيصبحون جميعاً أئمّة وأصحاب طرق بعدد أنفسهم؟ لقد جرت سنّته عزّ وجلّ أن يكون بيانه للنّاس بواسطة من يصطفيهم من رسله، فقد أبان محمد ما اشتبه على أهل الكتاب مما أنزل إليهم من قبل. كما أبان السّيد المسيح ما اشتبه على اليهود من كتابهم. فهذه هي سنّة الله وبها يكون البيان فيصلاً لا جدال فيه ولا اجتهاد بعده، وبه يجتمع شمل الأمّم وتولد حضارتهم من جديد. فبيان الحقّ للناس وإظهار المعاني المكنونة في أصداف الآيات المتشابهات في كتابه العزيز يكون بآيات يوحي بها الله إلى المصطفين. هذه سنّة الله، وفيها يجد الباحث جواباً شافياً عمّن يأتي بالتأويل. فالجواب بكل بساطة: هو "رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً"[١٦].


وكل مَن تدبّر في الكتب المقدّسة على اختلافها وجد بين آياتها الكثير مما يبشّر بظهور شخصين إلهييّن في وقت اتفقت الكتب السماوية على تسميته بآخر الزّمان. ولا مراء أن الآيات الّتي تحدّثت عن ظهورهما، وعن اليوم الآخر، وعلامات الآخرة كانت من الآيات المتشابهات الّتي استحالت معانيها على أفهام كل من تصدى لتأويلها - كما سنرى فيما بعد - إلى أن حان يوم تأويلها. هذان المظهران العظيمان هما "المهدي وعيسى" في اصطلاح الأحاديث الشريفة، و"عودة المسيح على يمين الآب السّماوي" في اصطلاح الإنجيل، و"ظهور ربّ الجنود" و"إيليا" في اصطلاح التوراة.


لقد دارت أكثر آيات القرآن الكريم حول التّشويق والتّبشير وبين التّصريح والتّلويح بمجيء هذين المظهرين المباركين. وترك النبيّ لأمّته، كنزاً من أحاديثه الشّريفة حتّى لا يشتبه على أحد أمر هاتين الجوهرتين عند تلألئهما. وقصدت هذه البشارات والإنذارات والأحاديث الشّريفة إعداد الأمّة بأسرها - سنّة وشيعة - لليوم الموعود الذي تتجلّى فيه كلّ هذه الحقائق الربّانيّة، وتتحقق الوعود الإلهيّة. وقام الأئمة من آل البيت بتشويق المسلمين وتشجيعهم على اتّباع المعروف، والبعد عن المنكر، وإقامة شريعة الله ترقّبا ليوم الله الموعود. فماذا كانت عاقبة كلّ ذلك؟



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة