بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


بشارات الكتب السّماويّة

الكتب الإلهيّة هي مشارق الهداية التي يستمد منها المؤمنون القيم والشرائع والمعارف التي تعينهم على تنظيم مجتمعاتهم على نحو يكفل للبشر الأمن والسعادة والتقدم الحضاري في دنياهم، ويكلل آخرتهم برضوان من الله ومغفرة.


ولهذا وجّه أتباع كل دين اهتماماً خاصاً لدراسة نصوص كتابهم المقدس وأحاطوا دراستها بسياج من الحيطة ليضمنوا أنّ فهمهم لمعاني آياته جاء مطابقاً لمراد الله. ومع هذا الحرص وتوفر حسن القصد لبلوغ مراد الله لم يكن نجاح الشّراح والمفسّرين إلاّ جزئيّاً؛ فقد اختلف فهمهم، وتضاربت آراؤهم، فطمس الخلاف والتحزب وجه الحقيقة، وطغى التعصّب للرأي على الإنصاف والتعقل، فكثرت الفرق وتعددت المذاهب، واستشاط في العداء أتباعها.


وفضلاً عن الفُرقة والنفور والانقسام بين أهل الدين الواحد أحال بعض الكهنة والمفسرين شرح آيات الكتب المقدسة إلى أدوات لتكذيب مَن بعثهم الله بالحق بعد رسولهم. ويشهد التاريخ أن أكثر المعترضين على الرسالات الإلهية كانوا كهنة وعلماء الأمم السابقة عليها، معتمدين في اعتراضهم على تأويل ما لديهم من آيات الكتاب. فبشارات مجيء الرسل اللاحقين لم ترد في أي كتاب سماوي صريحة ومحددة، بل جاءت تورية وفي معاريض الكلام بلاء للناس، فسهّل ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، وصْرف المعاني الجارية للألفاظ إلى معان بديلة افترض المفسرون أنها المقصود. وهكذا استُبدلت وعود وعلامات مجيء الرسل المقبلة بفروض وتصورات ما أنزل الله بها من سلطان. واستحال ما أنزل في الكتب المقدسة هدىً للعباد وبشرى لهم فتنة تزيد العباد حيرةً في أمرهم. فالتأويل ضرب من الظن، ولا يعلم مراد الله على وجه اليقين إلاّ من أوحي إليه هذا المراد، وتوفر لديه حسن القصد.


ولعل هذا أحد الأسباب التي من أجلها حذّر الله الناس من تأويل الآيات المتشابهات. ولأنهم لم يلتزموا بالتّحذيـر الإلهي ازدادت الفُرقة، وكثرت الشيّع والأحزاب، وتعدّدت الطّرق مما أصاب وحدة الأمّة في الصّميم، وزاد الوضع سوءً ما شاع من أحاديث نُسبت إلى الرّسل صلوات الله عليهم وهي ليست بشيء. والشيّع والأحزاب، كبيرها وصغيرها، وقديمها وحديثها، وجدت واستقرت على حساب صفاء الفكر الدّيني، وتكاثرها المستمر جعل إصلاح الحال ضرورة احتلت تفكير المصلحين، القدامى منهم والمعاصرين.


فدعا فريق إلى عمل تفسير جديد للقرآن الكريم، واشترط فريق آخر أن يكون هذا التّفسير قاصراً على المبادئ والتّعـاليم، ونادى فريق آخر بفصل الدّيـن عن الدّولة، ودعا غيرهم إلى تجديد الفكر الديني. وما زال النقاش دائراً إلى يومنا بدون نتيجة عملية.


وقد بُذلت محاولات عدة في القرن العشرين لإصلاح شأن الأمّة الإسلاميّة وإعادة الوحدة إلى العالم الإسلاميّ، وكان لا بد لذلك من توحيد المذاهب والشّيع المتعدّدة أو التقريب فيما بينها باعتبارها العـامل الأوّل في إيجاد الفُـرقة والانقسام، وعُقدت المؤتمرات والندوات للتّقـريب بين المذاهب، ولكنها انتهت بدون الوصول إلى النّتيجة المرجوّة لتمسك كل فريق بما ورثوه من آراء عن أسلافهم.


كما ظهرت دعوات ملحة إلى تفاسير جديـدة للقرآن الكريم، وتجديد للخطاب الديني تجاوباً مع الشّعور العامّ الذي يرى ضرورة إزالة الشبهات التي وقعت فيها التّفاسير التّقليديّة وتناقضها مع الثابت من العلوم الحديثة، مما حدا ببعض الكتّاب والمفكّرين من غير المحترفين لشئون الدّين أن يدخلوا إلى ميدان التّفسير، الأمر الذي يستنكره المتمسّكون بالتّفاسير التقليدية. فأضحت محاولات الإصلاح عاملاً إضافياً في زيادة الانقسام والجدال.


وفكرة إيجاد تفاسير جديدة لا تخلو من مشاكل أثارت تساؤلات لا وجود لإجابات مرضية لها. من ذلك التساؤل عن الذين سيتصدون لهذا العمل الجليل. فهل من الحكمة أن تستأثر به جهة معيّنة أم يكون باب الاجتهاد مفتوحاً لكل من شاء الولوج إلى ميدان التفسير الجديد؟ وإن انتهى الرأي إلى تحديد المتصدين لهذا التفسير الجديد فمن - بعد الله ورسله - يملك حق تعيين المؤهلين لهذا العمل الخطير. سؤالان لا بد من مواجهتهما بشجاعة لأن الذين يشغلون مراكز القيادة الدينية ليسوا بالضرورة من روّاد الفكر الديني أو الضالعين فيه، وأكثرهم لا يؤيد إطلاق الحرية للمتصدين للتفسير في اختيار المناهج والموازين التي يتبعونها.


هناك من يبحثون بصدق عن الحقيقة التي طمستها الخلافات المذهبية وأغلق التعصب في وجهها الأبواب، ولكن تتعثر خطاهم في الوصول إليها تمسكهم بالمفاهيم والتقاليد الموروثة، بينما ينادي أئمة الفكر المتفتح بأن البحث الجدّيّ الصّحيح المؤدّي إلى نتائج يُعتد بها يتوقف على الاستقلال في التفكير، وسلامة المنهج الذي يعتمد عليه الباحث في دراسته.


والمنهج الذي يوصون به يحتّم أن يتجرد الباحث من كلّ شيء كان يعلمه من قبل، وأن يتقبّل موضوع بحثه خالي الذّهن مما قيل فيه خلوّاً تامّاً. والنّاس جميعاً يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدّين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثراً، وأنه قد جدّد العلم والفلسفة تجديداً، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم، والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطّابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث نعم! يجب حين نستقبل البحث "أن ننسى عواطفنا القوميّة وكلّ مشخّصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدّينيّة وكلّ ما يتّصل بها، وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القوميّة والدّينيّة؛ يجب ألا نتقيّد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلميّ الصّحيح. ذلك أنّا إذا لم ننس هذه العواطف وما يتّصل بها فسنضطرّ إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغلّ عقولنا بما يلائمها. وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟"[۱]


وهل أضل الأمم السّابقة وأبعدهم عن رسالات الله عبر التّاريخ غير رفضهم قطع الصّلة الفكريّة والعاطفيّة بالمأثور والمألوف، والتّحرر من قيود التّعصب والميل إلى الموروث؟ ولو اتخذوا هذا التّجرّد منهاجاً إبّان مراحل التّجديد الديني الّتي جاءت بها الأنبياء والرّسل، لما أعرضوا عن هذه الرّسالات الّتي كانت لصالحهم وصلاحهم. فللتّعرّف على الحقيقة سبيل واحد لا يكاد ينافسه فيه منهج بديل: وهو طرح العقائد المألوفة والأفكار المسلم بها والتّقاليد الموروثة على بساط البحث والنّقد والتّحليل، والنّظر فيها بإنصاف منزّه عن الميول والعواطف والأحكام المسبقة.


وجدير بنا في هذا المضمار أن نتأمل نصح عباس أفندي لأحد مكاتبيه الذي سأله عن أهدى السبل لإخراج أمتنا من الوهدة التي وقعت فيها لتلحق بركب الأمم المتسابقة في ميادين المعارف والتقدم، فتفضل حضرته: "وإن كنتَ أيّدك الله بالرّأي السّديد والحذق الشّديد تفكّر في ما تعود به هذه الملّة البيضاء إلى نشأتها الأولى ومنزلتها السّامية العليا، قسماً بعاقد لوائها وشمس ضحاها ونور هداها ومؤسّس بنيانها ليس لها إلاّ قوّة ملكوتيّة إلهيّة تجدّد قميصها الرّثيث وتنبت عرقها الأثيث وتنقذها من حضيض سقوطها وهاء هبوطها إلى ميم مركزها وأوج معراجها، ألا هي لها، هي لها، هي لها، والسّلام على من اتبع الهدى"[۲].


وعلى ضوء هذه المقدمات يتناول الفصل الأول تحليل أسباب ظاهرة تكذيب الرسل المتواترة، ورفض أثر الناس للأديان الجديدة تمسكاً بشبهات وقع فيها السلف. فيبدأ بدراسة إجمالية للآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما يماثلها من المجاز، ليبين ما أسفر عنه إصرار المفسرين على تأويل المتشابهات، ويقدم أمثلة للتناقض والاختلاف الذي أوجده المفسرون في معاني الكتاب الذي وصفه تعالى بقوله: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا"[٣].


ثم ينتقل البحث إلى سبيل الاهتداء إلى مراد الله من الآيات التي استغلق فهم معانيها على العباد، وعلّة عسرها على الفهم مع أن كتاب الله تنزّل ليكون مصدراً للهداية. ثم يتناول البحث أخيراً مناقشة الصعوبة التي تثيرها معتقدات السلف بانتهاء الوحي الإلهي وختم النبوة، رغم تأكيد كتاب الله بأن سنته تعالى - ومنها تنزيل الكتب السماوية - لا تتبدل، وأن كلماته لا نفاد لها، وأن وعده بمجيء المسيح - وهو رسول - من بعد محمد لا بد واقع.



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة