بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


القيامة والساعة

تقدّم القول بأنّ أتباع كلّ رسالة دينية قد ورثوا الاعتقاد بأن رسالتهم آخر الرسالات الإلهية، وبها انقطع الوحي، فهم لا يتوقعون أي رسالات إلهية من بعد رسولهم، وكثير منهم - تحت تأثير هذا الاعتقاد - يقرأون النّبوءات التي تخبر بظهور رسالة جديدة قراءة سطحية، عمادها تفسير الآيات التي تحوي رموزاً ومجازاً على أن معانيها عين ما تدل عليه ألفاظها مع استبعاد الاحتمال أن يكون لها معان أخرى. من ذلك ما ورد في الكتب السماوية والأحاديث النبوية عن آخر الزمان والنبوءات التي تخبر عن القيامة، والساعة، ونفخ الصور، والصيحة، وما ماثلها. والقليل من الناس - بل وأقل من القليل - هم الذين يتفكرون في المقصود من نفخ الصور، أو ما هي تلك الصيحة التي تصل إلى أسماع العالم بأسره، أو كيف يتزامن مجيء المهدي ونزول عيسى مع انشقاق السماء، وتكوّر الشمس، وانطفاء شعاعها، وتساقط النجوم على الأرض، وتزلزل الأرض، ونسف الجبال نسفاً.


ولا شك أن في هذه الآيات ما يدعو إلى المزيد من التفكير المتأمّل لفهم معانيها، لأن في تكوّر الشمس وأنشقاق السماء وسقوط النجوم على الأرض مثلا نهاية محققة للحياة على وجه الأرض، بل فناء الأرض ذاتها. بينما هذه الآيات نفسها تجزم في الوقت نفسه بمجيء مبعوثين من الله في ذلك الوقت، وبعث الموتى إلى الحياة، ونشر العدل، والقضاء على الظلم، وإعمار الأرض وإصلاحها من جديد، وإشراق الأرض بنور ربها.


ولعل من الجدير بالمرء أن يتساءل - لو أخذنا معاني هذه الآيات على ظاهر لفظها - لماذا يدمر الله العمار الذي أقامه على هذا القدر من التنظيم والإبداع؟ ألا يمكن حساب الناس على ما كسبت أيديهم بدون هذه الكوارث التي لا علاقة لها بالحساب؟ وليس المقصد من إثارة هذه التساؤلات التشكيك فيما جاء في الكتب السماوية، بل التأمل فيها بغية استخلاص مراد الله منها. فكل هذه الأيات التي اعتبرها الجانب الأكبر من المفسرين محكمات وواضحة الدلالة، هي في الواقع متشابهات أشكل فهمها على الناس لأنها في الظاهر متناقضة، وغير مقبولة عقلاً، فلا بد من أن تكون لها معان أعمق مما ذهب إليها المفسرون في السابق.


فالنّاس جميعا يتحدّثون عن يوم موعود، عن السّاعة، عن القيامة، ويتحدّثون عن ويلاتها وأهوالها، وكلّ هذه أوصاف وردت لها فعلاً، ولكن ما معناها؟ الصور المتعدّدة التّي تذكرها الكتب المقدّسة - وخاصة القرآن والإنجيل - تبعث الحيرة إذا أخذت معانيها على ظاهر ألفاظها، وأغفل ما تنطوي عليه من مدلولات، ففي صورة يأخذنا الهلع من المصير المفزع الذي ترسمه وفي صورة أخرى نرى مصيراً متألقاً بأنوار الرّحمة الكبرى.


والقرآن الكريم يعرض صوراً متباينة لأحداث القيامة على نحو ملحوظ بحيث تحتل مكاناً هاماً من انتباه القارئ. وترسم إحدى هذه الصّور المصير المفزع الرهيب الذي ينتظر الناس في اليوم الموعود: "إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ"[١]، "وَانْشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ"[۲] وكذلك: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ"[٣] وإِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا فَكَانَت هَبَاءً مُنْبَثًّا"[٤]، و"إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا"[٥] وغير ذلك من أوصاف من قبيل: يوم العذاب، ويوم الحسرة، ويوم الحساب، ويوم العقاب، ويوم الخزيّ، ويوم التّغابن. ويصف القرآن الكريم حالة النّاس في ذلك اليوم الرهيب: "إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ يَومَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ"[٦] "فَإِذا جَآءَتِ الصَّاخَّةُ يَومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيْهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ وصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ"[۷].


ويرسم القرآن صّورة ثانية للقيامة تفيض بالرحمة وتشرق بالبشارة الكبرى وتغرد على أفنانها ورقاء السماء بأناشيد البهجة والمصير المشرق: "يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً"[٨]، وقوله أيضاً: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا"[٩]، وكذلك: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُم اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ وقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ"[١۰]، و"يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ"[١١]، "وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا"[١۲].


فإذا قصرنا فهمنا على مدلول ألفاظ هذه الآيات ومعانيها الظّاهرة انتهينا إلى نتائج لا يقبلها العقل، فالانقلابات الكلّيّة المذكورة لو حدثت لن تترك فرصة لإنسان حتى يفرّ من أخيه وأمّه وأبيه، ولا للمرضع لتذهل عمّا أرضعت، ولا للإنسان أن يكون سكرانا وما هو بسكران. فماذا يكون حال الإنسان إذا السماء انشقّت، والأرض رجّت، والجّبال نسفت، والشّمس كوّرت، والكواكب انكدرت، والبحور سجّرت إلى آخره؟ هل يمكن تصوّر بقاء كائن حيّ بعد حصول هذه الانقلابات؟


ومع ذلك نص كتاب الله لا يترك مجالاً للشك في استمرار وجود الناس على قيد الحياة رغم ورود كل هذه الانقلابات الخطيرة. إذاً فمن المعقول أن تكون هذه الأوصاف قد وردت على سبيل التمثيل والتشبيه مشيرة إلى أمر عظيم بظهوره تحدث كلّ تلك الانقلابات بصورة معنوية. وهل هناك أمر أعظم من الوعد بورود الله، ولقاء العباد به تعالى؟


ولكن علّمنا رسل الله أنه سبحانه منزّه عن خصائص الأجسام وصفاتها وأنه أعظم من أن يحد ذاته حيز أو مكان. إنّه غيب منيع يصفه حضرة بهاء الله بقوله عزّ بيانه: "إنّ غيب الهويّة وذات الأحديّة كان مقدّساً عن البروز والظهور والصعود والنزول والدّخول والخروج، ومتعالياً عن وصف كلّ واصف وإدراك كلّ مدرك، لم يزل كان غنياً بذاته، ولا يزال يكون مستوراً عن الأبصار والأنظار بكينونته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللّطيف الخبير"[١٣].


ألا يكفي هذا للاقتناع بأن معاني هذه الأيات غير ما يدل عليه ظاهر لفظها؟ وهل هناك طريق آخر غير المجاز لفهم هذه الآيات المباركة على نحو يقبله العقل؟ ألا يمكن أن نقبل معنى مجيء الله على أنه مجيء مبعوث من الله في يوم موعود موسوم بهذا الاسم المقدّس العزيز المنيع؟ ألا تتحقق بواسطة هؤلاء المبعوثين معرفة الله والقرب منه ولقاؤه، وبدونهم يكون الطريق مسدوداً والطلب مردوداً؟


وهناك صّورة أخرى يعرضها القرآن الكريم عن القيامة والسّاعة تعتبر بحقّ مفتاحاً لما أغلق فهمه على الأذهان، وتعين المتأمل فيها على إدراك معان أبعد وأعمق مما يقول به القانع بظاهر لفظها، وهي بذاتها تكفي للإقناع بأن معانيها - ما لم تؤخذ على المجاز - لا سبيل إلى فهمها إلاّ بقدر ما يفقه الطفل من أسرار الحياة.


قال تعالى: "أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُم غَاشِيَةٌ مِن عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ"[١٤]، وقال تعالى: "وَأَنْذِرْهُم يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُم فِي غَفْلَةٍ وَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ"[١٥] وقال أيضاً: "يَومَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِنْ نَاصِرِينَ"[١٦]. والسؤال كيف يمكن أن يحدث في يوم القيامة انشقاق السماء، وتكور الشمس، وسقوط النجوم، مع غفلة الناس عن وقوعها وعدم شعورهم بهذه الأحداث المهولة؟


وهل من المعقول أن يكفر النّاس بعضهم البعض ويلعن بعضهم بعضا بينما الأرض تتزلزل وأحداث الساعة تهزّ كلّ ذرّة من ذرّات وجودهم؟ وهل يمكن أن يوجد مجال - وسط تلك الأحداث الهائلة - لاستمرار السبّ واللّعن؟ ولنتفكر في قوله تعالى: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيْمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُم كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ"[١۷]. فهل يمكن عقلاً أن يقع انشقاق السماء، وتكور الشمس، وسقوط النجوم، بمعانيها الحقيقية والناس في غفلة من هذه الأمور المهولة؟ فلا مناص إذاً من حمل هذه الألفاظ على معان معنوية وروحانية تسمح بوقوع الزلزلة والرجفة والناس عنها في غفلة وعلى غير علم.


وهناك صورة أخرى ليوم القيامة. فقد رأينا للقيامة صورة فيها تنشق السماء، والأرض ترتج وتتزلزل، والجبال تُنسف وتُقلع، والشّمس تتكوّر وتظلم، والكواكب تنتثر وتسقط. وصورة ثانية فيها جلال مجيء الربّ وملائكته، وورود الله، وتبديل الأرض والسّموات، وإشراق الأرض بنور ربّها. وصورة ثالثة فيها جدال ونزاع بين الناس حتى يُكفّر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.


وها هي صورة رابعة تقدّم لنا القيامة في نفختين متتابعتين - نفخة تُصعق كلّ من في السّموات والأرض إلاّ من يشاء الله، وتتبعها نفخة يقوم بها النّاس وتشرق الأرض بنور ربّها ويجري الحساب ويتم الثواب والعقاب على هذه الأرض، كما قال تعالى: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصُعِقَ مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيْهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوَضِعَ الكِتَابُ وَجِاءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"[١٨].


فالآية تشير إلى كتاب وقضاء بين النّاس بالحقّ. فإذا قيل بأنّ الكتاب المقصود هو القرآن الكريم، فإنّ القرآن الكريم والإنجيل والتّوراة كانت موجودة وقت نزول هذه الآية الكريمة، ولكنها مع ذلك تشير إلى كتاب يأتي بعد النفخ في الصور مرتين، وبعد انصعاق من في السموات والأرض وقيامهم مرة أخرى، وبعد إشراق الأرض بنور ربها. فلا بد أن يكون الكتاب المشار إليه كتاب آخر غير القرآن والانجيل والتوراة.


ويشير سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز إلى أنّ الخلود في الجنّة والنّار خلود دائم بدوام السّماوات والأرض، مما يؤكد أن السموات والأرض باقيتان بعد الحساب. فقد قال تعالى عن يوم القيامة: "يَومَ يَأْتِ لاَ تَكَلََّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُم شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُم فِيْهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فَيْهَا مَا دَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيْهَا مَا دَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ"[١٩]. وهذا تأكيد بدوام الأرض والسماء أثناء قيام الساعة وبعدها، الأمر الذي يناقض تكوّر الشمس، وانشقاق السماء، وزلزلة الأرض، ودك الجبال إذا حملنا هذه الألفاظ على معانيها الظاهرة.


والخلاصة أن هذه الآيات المباركة وكثير غيرها، هي آيات متشابهات ظلّت طوال الآجيال الماضية مختومة بخاتم المسك حتّى جاء حضرة بهاء الله وفضّ ختمها بإصبع إرادة الله، وكانت من قبله غامضة. وزادها غموضاً ما جرت به أقلام القوم من شروح وتعليقات. فظهور حضرة بهاء الله كان الصّور الّذي نفخ روح الحياة من جديد في هيكل الوجود كما سيأتي تفصيلاً فيما بعد عند الحديث عن رسالة حضرة بهاء الله.


ولنحاول الآن فهم هذه الآيات على نحو مختلف. فقد قدمت صورة يونس أحد مفاتيح سرّ القيامة قلما انصرف إليه انتباه الناس، وذلك في قوله تعالى: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفَعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ"[۲۰]، وهذا نص صريح يقرن قيام الساعة والبعث بانتهاء أجل الأمة، ويحدد لكل أمة أجلاً إذا حان أجلها حان أيضاً حسابها. فكأن للأمم آجالاً كما أن للأفراد آجالاً، وكذلك للأمم حساب كما أن للأفراد حسابا. فالأمم جموع من الأفراد. وحساب كل أمة يحين بحلول أجلها. ويروي القرآن الكريم أمثلة لحساب الأمم السابقة عندما حانت أجالها وتم حسابها، ولهذا يجب علينا أن نراجع أنفسنا ونتفكّر مليّا في المراد من علامات الساعة. وعلينا في خلال هذا البحث أن نستلهم الجواب ونعتمد في فهم هذا اليوم على نور نصوص كتاب الله، لا على ما ورثناه من روايات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.


١- حدّثتنا سورة هود عن رسالة نوح والطّوفان الذي حلّ بقومه جزاء إعراضهم واستكبارهم، ولم ينج منهم إلاّ الّذين صدّقوا برسالته، وأطاعوا أمر الله واعتصموا برحمته: "فَقَالَ المَلأُ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَومِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنَا بِادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُم عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُم كَاذِبينَ"[۲١] واستمر القوم في غرورهم واستكبارهم: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَينِ اثْنَينِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَولُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيْهَا بِاسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِم فِي مَوجٍ كَالجِبَالِ"[۲۲].


٢- وحدّثتنا أيضاً عن قوم هود: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ"[۲٣].


٣- وحدّثتنا السورة نفسها عن قوم صالح: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"[۲٤].


٤- كما حدّثتنا أيضاً عن قوم إبراهيم: "إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءَاتِيْهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ"[۲٥].


٥- وحدّثتنا عن قوم لوط: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيْهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سَجِّيْلٍ مَنْضُودٍ"[۲٦].


٦- وحدّثتنا عن قوم شعيب: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"[۲۷].


٧- ثم حدّثتنا عن قوم ثمود: "كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيْهَا أَلاَ بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ"[۲٨].


٨- وجاء في سورة الحاقة: "كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِم سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَومَ فِيْهَا صَرْعَى كَأَنَّهُم أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِنْ بَاقِيَةٍ"[۲٩]. وما نستخلصه من هذه الأخبار أن من نتائج الحساب فناء المستكبرين المكذبين بحيث "لاَ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ"، واستمرار الحياة بالمؤمنين ودوامها بدوام أسماء الله وصفاته العليا، كما استمرّت الحياة ودامت بعد انقضاء الأمم الغابرة.


ونستخلص من جهة أخرى، أن القارعة والحاقّة والصيّحة والصّاخة ويوم الحشر وغيرها، جميعها مترادفات ذات مدلول واحد عام، وآثار واحدة عامّة، وهي التّفاعل الحتمي الذي يحدث عند دعوة كلّ رسول إلهي مع الأمة أو الأمم التي بُعث إليها. فالدعوة في ذاتها صيحة هائلة ترجّ الأفكار رجًّا، وتهتزّ من شدتها الشرائع القائمة اهتزازاً، وتتزلزل من وقعها الأوضاع السّائدة زلزلة شديدة، فتورد المعارضين والمستكبرين المهالك، وتقرع المبطلين، ويحقّ القول على المكذّبين المتمادين في غيّهم وأهوائهم. ثمّ تخلق خلقاً جديداً ليسعى في هدى النّور الجديد.


والحقيقة واحدة لا تتعدّد بتعدّد الأسماء، فالمعنى واحد بين القارعة والحاقّة والصيحة والصاخة والقيامة والنبأ العظيم وأمثالها، وبين "أمر الله" و"الحساب". إذ إنّ كلّ هذه التعبيرات تصدق في اليوم الذي يرتفع فيه نداء الرّسول الإلهيّ أيّا كان ذلك اليوم. ويخاطب الله العالم في شخص الأمة الإسلامية ليبلّغهم أن الحساب قريب لا ريب فيه، رغم انصراف الناس عنه وعدم تقديرهم لنتائجه الحاسمة، فكل ما عدا النداء الإلهي في نظر الله لعب وعبث لا خير فيه ولا دوام له. فقال تعالى: "مَا يَأْتِيْهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِم مُحْدَثٍ إِلاَ اسْتَمَعُوهُ وَهُم يَلْعَبُونَ"[٣۰]، والذّكر هنا معناه الكتاب. فقوله تعالى "ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِم مُّحْدَثٍ" يعني كتاب من الله جديد، ومجدد لشريعته. ومعنى نزول الكتاب الجديد هو انتهاء أجل أمّة ونهاية دور وبداية آخر مصداقاً لقوله تعالى: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوماً ءَاخَرِينَ"[٣١].


والخلاصة: أنّ هلاك الأمم السّابقة جزاء إعراضهم واستكبارهم - الذي فصّلته سورة هود - أمر ثابت في الكتاب. والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم تجري عليها سنّة الله كما جرت على الأمم السابقة عليها، فهي عند ظهور المهدي ونزول عيسى روح الله ستواجه الامتحان نفسه الذي ابتليت به الأمم السابقة. ثمّ تنقضي نشأة، وتبدأ نشأة أخرى، ويأتي الله بخلق جديد. وقد نبّه الرسول الأمين أمّته أن مثلها مثل غيرها من الأمم السابقة، تخضع لسنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل فقال: "لَتَسلُكَنَّ سُبُلَ مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه‮. قالوا: والنصارى واليهود يا رسول الله؟ قال: ومَن؟ [۲٣] ومنه نفهم أن الحساب الذي قدّمته الأمم السابقة لا بد واقع أيضاً للأمة الإسلامية.


"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة