بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


الشمس والكواكب

ولنتناول الآن باختصار تفصيل ولو جانب من الاستعارات البديعة الخاصة بالشمس والكواكب وبيان مدلولاتها الروحانية، خاصة لما شاع بين النّاس أنّ من علامات القيامة تكوّر الشّمس وتناثر النجوم، واختلاط الدواب والوحوش، وتسجر البحار وما إلى ذلك من انقلاب في طبيعة الكون. والمتأمل النبيه في هذه الصورة يرى أن بمجرد أن يذهب عن الشمس حرّها ونورها، يستحيل وجود أي صورة من صور الحياة في المجموعة الشمسية بأسرها بما في ذلك الجنّة والنار. لأن الله جعل إشعاع الشمس هو مصدر الحياة كما نعرفها. حتى الكائنات التي تعيش تحت الأرض ولا ترى نور الشمس يتوقف وجودها على إشعاع الشمس.


وقد ورد في آيات الكتاب ذكر لبعض الاستعارات التي انبنت عليها هذه المعتقدات فلا يمكن تجاهل ورودها، ولكن يلزم فهم هذه الرموز على ضوء ما جاء ذكره في مواضع أخرى من كتاب الله حتى لا يشوب آياته شيئا من التناقض أو الاختلاف، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل. فتكور الشمس وسقوط النجوم وتسجر البحار - لو أخذت على معانيها الحرفية - يستتبع انعدام كل صورة من صور الحياة، فضلاً عن تبديل عظيم لسنّة الله التي ذكر سبحانه وتعالى في أكثر من موضع من كتابه العزيز أنها لا تتبدّل عما عهدناها عليه، ولا تتحوّل عن مسارها: "وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحوِيلاً"[١]، وقوله أيضاً: "وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبدِيلاً"[۲]، وتأكيده المكرر في سورة فاطر: "فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحوِيلاً"[٣].


فإن قيل أن الحياة الآخرة يمكن أن تكون على صورة أخرى ومن طبيعة لم يعرفها الإنسان: فلا يكون نبات الجنة مثل ما عرفنا ولا تكون أنهارها كالتي تجري في الأرض، ولا حيواناتها مثل حيواناتنا، ولا فواكهها مما نأكل، فنقول أن في هذه الحالة تكون جميع الأوصاف التي وردت في القرآن الكريم عن الآخرة والقيامة وأحداثها ليست وصفاً حقيقياً، بل جاءت على وجه المجاز وعلى سبيل التشبيه، تقريبا إلى الأذهان، ويكون المراد منها هو تصوير العلاقات الضرورية فيما بين هذه الأشياء الغيبية التي تماثل العلاقات بين الأشياء التي عرفناها. فكما رأينا سابقاً لا بد أن يكون بين الحقيقة والمجاز نسبة وإلاّ لما استقام للكلام معنى.


وقد ذكر أبو حامد الغزالي شيئا من هذا القبيل - وإن لم يكن بهذا التفصيل - في كتابه مشكاة الأنوار: "واعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللّب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، والظلمة بالإضافة إلى النور، وكالسفل بالإضافة إلى العلو، ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني. وفي مقابلته السفلي والجسماني والظلماني.


"ولا تظن أنّا نعني بالعالم العلوي السموات، فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتياً إلاّ ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسموات، فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السموات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه، وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية"[٤].


وقد أبان حضرة بهاء الله في كتاب الإيقان المعاني الجليلة المستورة في أصداف هذا المجاز، ولا يسعنا إلاّ أن نورد قبساً من بيانه الأحلى رغم ضيق المجال في هذه الورقات. والذي يقرأ كتاب الإيقان يخرج منه بأنّ المراد بالنّور النّور الرّوحاني الذي هو نظير النور المادي يهدي سواء السبيل. ولما كان مركز النّور في العالم المشهود هو الشّمس، فكذلك مركز النّور لعالم الرّوح هو الرّسول أو الكتاب الإلهيّ الذي هو أصل الهدى، وبمثابة الشّمس الساطعة ينير أفاق الإمكان بالفضائل والعلوم. فالمراد من تكوّر الشمس وإظّلامها، أمرين: الأول: ضعف سلطان الرسالات الإلهية بمرور الزمن وسيطرتها على قلوب البشر، وبضعف نفوذها تنتشر الضلالة المشابهة للظلام، والثاني إشراق الشمس الروحانية في يومها التالي بدرجة أقوى مما كانت عليه سابقاً، بحيث يكون النور السابق بمثابة الظلمة إذا قيس بشدة سطوعها اللاحق، وذلك تمشياً مع التدرج في ارتقاء البشرية وتهذيبها.


أما المقصود بالسماء فهو كل ما يعلو فكر الإنسان، والمقصود بالأرض كل ما هو دان، والمعقولات على درجات في رقيها وسموها، وهي طبقات بعضها فوق بعض، ولكنها جميعاً أدنى من الدين الذي يسمو عليها جميعاً، فهو الذي يصدق عليه اسم السّماء بوجه الإطلاق. ومن هذه السماء العالية تطلع شمس الظّهور الإلهي ويشرق نور الرّسالة الربانية. وكما أنّ شمس الدنيا دائمة الإشراق على الرغم من سحب قد تحجب نورها حيناً من الوقت بعد صعود بخارها من الأرض، كذلك أنوار العالم الرّوحانيّ فيضها دائم على الدوام على الرغم من سحب الأوهام والخرافات التي تحجبها من وقت إلى آخر. فإن أظلم العالم فإلى حين، حتى تنقشع السحب بفعل شمس الحقيقة وقوتها.


وكذلك بيان المقصود من النجوم، فهي ترمز إلى الأئمة الرّوحانيين الّذين يظهرون في سماء الدّين بعد تمام كل رسالة ورحيل مبعوثها عن عالم الفناء. وتساقط النّجوم وانتثارها كناية عن حالتين: الأولى سقوط مقام الأئمة الّذين كانوا يوما ما نجوم الهدى، والثانية طلوع الشمس من جديد لتخفي بنورها الوضاء تلألؤ هذه النجوم مهما عظم شأنها.


وعلى ضوء ما تقدم يستطيع الإنسان أن يوفق بين معاني القيامة وأحداثها الهائلة من انشقاق السماء، وزلزلة الأرض، وتكور الشّمس، وتساقط النجوم، وبين ما ورد في الكتاب عن إشراق الأرض بنور ربّها، وميراث الأرض للمتّقين يتبوّءون من الجنّة حيث يشاءون. أما إذا أخذنا معاني هذه الآيات على ظاهر ألفاظها فإنّنا نباعد بين نص الكتاب والحقائق المشهودة بحيث يستحيل فهم المعاني المقصودة واستيعابها.


وتلخيصاً لكلّ ما تقدم في هذا الباب، فإنّ نفخة الصّور الأولى المتبوعة بالنّفخة الثّانية هي إشارة إلى ظهور مظهرين إلهيين عظيمين، أي رسالتين إلهيتين، واحدة تلو الآخرى مباشرة، وذلك في يوم أطلق عليه اسم "يوم القيامة".


وكما سنرى فيما بعد، قد تحقّقت النّفختان بظهور الباب المبشّر أولاً، وظهور حضرة بهاء الله موعود الأمم ثانياً، والّذين حفظهم الله من صعقة الصّور هم الذين أوصلوا حلقات الإيمان بدون إنقطاع، وبادروا إلى مناصرة هذين المظهرين المباركين، وكانوا شهود الحقّ في يوم الله.


ولنتدبّر مرة أخرى في قوله تعالى: "فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَومٌ عَسِيرٌ عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذِرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ... سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيْمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً"[٥].


ولنا الآن أن نحاول معا فهم هذه الصّورة التي رسمتها سورة المدثر: نحن أمام ناقور نقر فيه، ونار تسعّرت. فهل أمام مثل هذا الأمر الواقع يكون هناك مجال لفتنة بعد أن مضى وقتها؟ ها هي الجنّة، وها هي النّار، وقضى الأمر: "هل الجنّة للجنّة وأهل النّار للنّار، فمن أين تأتي الفتنة؟ وهل يكون أمام هذا الأمر المبرم مجال لمرضى القلوب ليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ أيظلّ الأمر مثلاً حتى بعد أن أزلفت الجنّة وسعّر الجحيم؟


سبحان الله، كيف يستطيع العقل أن يقبل هذه الصورة على معناها الظّاهري؟ إن تأويلها قد تحقق كاملاً بوجوهه المتعددة: فهؤلاء التسعة عشر كانوا أصحاب الجنّة بالنسبة للمتّقين، وكانوا أصحاب النّار بالنسبة لمرضى القلوب - فسلوكهم وصبرهم على الشّدائد والبلايا التّي أحاطت بهم وهم ينشرون نفحات الله، كان العامل الأوّل في تقوية وتشجيع كلّ مقبل، واطمئنان كلّ متوجّه إلى مولاه. و كان أيضا العامل في إثارة المعاندين، وانطلاق مرضى القلوب في إثارة الضجيج والفتنة من حول هذه الزّمرة القليلة، مستهزئين - كما استهزأ الّذين من قبلهم - بالحقّ وأهله قائلين: "ماذا أراد الله بهذا مثلا"، والله تعالى يرد بقوله جل شأنه: "كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلبَشَر"[٦].


فالسورة المباركة تفصّل في إيجاز وإعجاز الحالة التّي كان عليها النّاس عندما ظهر حضرة الباب. فمن النّاس من شرح الله صدره ودخل في دعوته وازداد إيمانه واطمئنانه، واستعذب البلاء في سبيله، ومنهم من لم يقوَ على الثّبات في وجه الفتنة الشديدة. ومنهم مرضى القلوب الّذين استهزأوا وسخروا بالحقّ وأهله، ثمّ هي في البداية ذكرى للبشر، وفي النّهاية حجّة عليهم.




"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة