بهاء الله

النبأ العظيم المذكور في كتب الله


التوحيد في كتاب الله

أتينا فيما تقدّم على مقتطفات في بيان معنى التّوحيد. وأبرز الله تعالى في كتابه العزيز ركن التّوحيد في صورة واضحة خالية من كلّ شبهة أو تعقيد، ومنها يستشرف الطّالب الحقائق الثّلاثة الآتية:


الحقيقة الأولى: أنّ الله تعالى يتصف بالوحدانيّة، وأنّ رسله وأنبياءه يكتسبون هذه الصفة، لأنهم يعكسون على حيّز الوجود عين ما استفاضوا به من وحي الله. وينبني على ذلك أيضاً أنّ الدين واحد لأنه نور واحد وكلمة صدق واحدة مصداقاً لقوله تعالى: "قُولُوا ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوْسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم لاَ نُفَرِّقُ بِيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"[١].


الحقيقة الثّانية: أنّ الشّرائع الّتي نزلت من عند الله على رسل متعدّدين، ولأمم مختلفة، وفي ظروف ودورات مختلفة كانت، ولا زالت واحدة في مصدرها وأهدافها، فهي تعبير للإرادة الإلهية، وغايتها تنظيم عالم متغيّر على وجه الدوام، ومواجهة متطلبات إنسانيّة متطوّرة.


الحقيقة الثّالثة: أنّ العمل الموكول إلى رسل الله في مختلف العصور، يصل بين هذه الرسالات السماوية لبناء صرح الإنسانيّة الممتد. فكلّ منهم يشهد للرسول السّابق عليه، وفي الوقت نفسه يبشّر بالرسول الذي يأتي بعده. وعلى هذا النحو تتجلى وحدانيّة الله وفردانيّته مع تعدّد مظاهر أمره ومطالع أسمائه، وتفاوت عصورهم، لأنّهم جميعاً مشارق شمس حقيقة واحدة مهما تعدّدت الآفاق الّتي تطلع منها أو كثرت المرايا الصافية التي تعكس نورها، فالنور الذي أشرق بالأمس على العالم بالهداية هو نفسه النور المشرق اليوم، وهو بذاته النور المشرق غداً.


فلكلّ رسول إلهيّ ثلاثة وظائف: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً"[۲]. وهذه الوظائف الثّلاثة تكوّن في مجموعها التّوحيد الّذي جاءت كلّ الرسالات الإلهية لبيانه للنّاس في صراحة وبساطة وقوة تمكّنهم - مع تفاوت الاستعدادات - من فهم مبدأ وحدانية الله تعالى، ووحدة رسله وأنبيائه، ووحدة دينه. ولو فهم الناس التوحيد حقّ فهمه لما تعدّدت الأديان ولما تفرّقت الأمم إلى فرق ومذاهب. وقد حدّث القرآن الكريم عن هذا البغي بقوله: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةُ فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ فِيْمَا اخْتَلَفُوا فِيْهِ"[٣] ثمّ تستمر الآية المباركة "وَمَا اخْتَلَفَ فِيْهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيا بَيْنَهُم فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيْهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ".


والنّاس متّحدون ما دام الدّين يحكمهم، فإذا انحرفوا عن صراط الله المستقيم دبّ الخلاف بالضرورة بينهم، وانقسموا على أنفسهم فيغفلون في ضوضاء المجادلات والمنازعات والمهاترات عن جوهر الدين، ويقبلون على الأهواء ويتركون العروة الوثقى، فيبعث الله إليهم رسولاً جديداً رحمة منه تعالى ليزيل من بينهم الخلاف، ويحكم بالحقّ، ويهدي الله الّذين يؤمنون به - أيّ بالرّسول الجديد - إلى الصراط المستقيم.


وفي هذا المقام تنبّه الآية المباركة إلى وحدة الفيض الإلهي، فبينما يقول تعالى: "فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ" بصيغة الجمع، يقول تعالى "وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ" بصيغة المفرد. فالكتاب عند الله واحد غير متعدّد. فالقرآن والإنجيل والزّبور والتّوراة، وسائر الكتب الإلهيّة كلّها كتاب واحد، وتنزيل من مصدر واحد، والأسماء المتعدّدة، عبارة عن صحائفه المباركة الجامعة. كلّ صحيفة منها رسالة كاملة لدورة كاملة. فالناظر إلى الصحائف يراها متعدّدة، والنّاظر إلى الكتاب يراه واحداً. ولا يوجد كتاب بغير صحائف، كما لا توجد صحائف ذات معنى متّصل إلاّ وهي كتاب، وهذه إحدى آثار التّوحيد المتجلّية في الإيمان الجامع والإبداع الكامل.


ولكن الناس ينظرون دائماً من زاوية التعدد ويحتجبون عن التوحيد. ينظرون إلى دين الله الواحد من جهة تعدد الأسماء لا من جهة التوحيد، ولذلك يختلفون ويكذّب بعضهم بعضاً. ولو سألنا أهل الأديان المختلفة عن مبلغ إيمانهم بوحدانيّة الله، لأجاب الجميع وبكل تأكيد أنهم يؤمنون بإله واحد لا شريك له، ولكن تحتفظ كلّ أمّة بتصوّر معين لهذه الوحدانية، وتعتبر كلّ تصوّر مخالف لتصوّرهم باطلا وضلالة.


فتصور اليهود للتوحيد مثلاً هو الإيمان بإله واحد وبموسى عليه السلام الذي اختتمت به الرسالات، حيث أنهم يعتبرون شريعته - كما رأينا سابقاً - أبدية وأن المسيح الموعود به سيأتي ليحكم بها من جديد ويعيد مجدهم التليد. وتصوّر التوحيد عند المسيحيين هو الاعتقاد بوحدانية الله، الآب السماوي، ويسوع المسيح المخلّص الوحيد الذي بفدائه خلّص البشر من معصية آدم، وهو الأول والآخر الذي انقطعت من بعده نسائم الرحمة الإلهية. وتصوّر أهل الإسلام للتوحيد هو الإيمان بوحدانية الله، وبنزول الوحي على محمد رسوله وخاتم النبيين الذي بشريعته انتهت الأديان.


وهكذا التقت الأمم الثلاث عند الإيمان بوحدانية الله، واختلفوا بتمسك كل منهم برسولهم الخاص واعتبروه آخر مبعوث إلهي فينتهي هذا الاعتقاد بهم إلى تكذيب المبعوث الإلهي الذي يأتيهم من بعد والإعراض عن دعوته.


والخلاصة أن التوحيد المتجلّي في شهادة "لا إله إلا الله" يثبت ويتحقق عند ظهور كلّ رسول. فمن يؤمن به إنّه من أهل التّوحيد، ومن يحتجب عنه بإشارات الأسماء، فإنّه ليس من أهل التوحيد، إنّه ممن يعبد الله على حرف، فلما تغيّر الحرف نكص على عقبيه، ولن يضرّ نكوصه الله شيئا.



"يَا ابْنَ الرُّوحِ ... أَحَبُّ الأَشْيَاءِ عِنْدِي الإنْصافُ. لَا تَرْغَبْ عَنْهُ إِنْ تَكُنْ إِلَيَّ راغِبًا وَلَا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكُونَ لِي أَمِينًا وَأَنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أَنْ تُشَاهِدَ الأَشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أَحَدٍ فِي البِلادِ. فَكِّرْ فِي ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ. ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتِي عَلَيْكَ وَعِنايَتي لَكَ فَاجْعَلْهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ."
%
تقدم القراءة